أقلام وأراء

علي حمادة: تمرّد في الدولة النووية الأقوى في العالم

علي حمادة 24-6-2023: تمرّد في الدولة النووية الأقوى في العالم

حتى كتابة هذه السطور، يبدو الوضع في روسيا شديد الغموض. فتمرّد مرتزقة مجموعة “فاغنر” بقيادة رئيس المجموعة “الشيف” يفغيني بريغوجين المتواصل منذ مساء يوم أمس الجمعة، بدأ يأخذ أبعاداً أكثر دراماتيكية مما كان يُعتقد لحظة إطلاق بريغوجين تمرّده عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما منصّة “تيليغرام ” التي تُستخدم بكثافة في روسيا.

في الساعات الأولى، مال المراقبون إلى الاعتقاد أنّ التمرّد محصور بـ”السوشيال ميديا”. فلم تظهر علامات على تحرّكات عسكرية جدّية حتى ساعات متقدّمة من صباح اليوم السبت، مع عبور  قوات كبيرة من “فاغنر” الحدود من الدونباس الأوكراني إلى الأراضي الروسية في مقاطعة روستوڤ من الجهة الأخرى. ثم دخلت القوات المدينة التي يقطنها اكثر من مليون شخص، وتتمركز فيها قيادة القوات الروسية العاملة في أوكرانيا. ولم تلقِ قوات بريغوجين مقاومة، لا على المعابر الحدودية، و لا خلال دخولها المدينة، وانتشارها فيها في الساعات الأولى من الصباح، مما أشّر إلى أحد احتمالين، إما أنّ الارتباك كبير لدرجة الفشل في اتخاذ قرار، أو أنّ “فاغنر” لاقت تعاطفاً من تشكيلات من القوات النظامية في الجيش الروسي.
ومع الوقت، تمدّدت “ڤاغنر” إلى مدن أخرى في الجنوب الروسي المحاذي لأوكرانيا لا تقلّ حجماً عن روستوف. ولاحظ المراقبون، أنّ ثمة حالة ضياع من جهة القيادة في الكرملين، خصوصاً مع ظهور عدد من قادة الجيش النظامي، مثل نائب قائد العمليات في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين، في رسائل فيديو موجّهة لعناصر المجموعة، تدعوهم إلى الإنصياع لأوامر القيادة ووزارة الدفاع. ولم يظهر الرئيس فلاديمير بوتين أمام مواطنيه عبر التلفزة إلاّ صباحاً، موجّهاً رسالة عنيفة اتخذ فيها موقفاً حاسماً من بريغوجين من دون تسميته، معتبراً أنّ ما يحصل مؤامرة وخيانة، مذكّراً ما حصل لروسيا خلال الحرب العالمية الأولى في العام ١٩١٧، قبل وقت قصير من إطلاق الهجوم المضاد ضدّ القوات الألمانية، حيث نشبت ثورة تسبّبت بخسارة روسيا الحرب، ودخولها في نفق الإضطرابات والانقسامات والحروب الداخلية.
وقال: “هذه مثل الضربة لروسيا في عام 1917، عندما دخلت البلاد الحرب العالمية الأولى، لكن انتصارها سُرق. تحوّلت المؤامرات والمشاحنات والسياسة وراء ظهر الجيش والشعب، إلى أكبر صدمة، وتدمير الجيش وانهيار الدولة وفقدان أراضٍ واسعة، ومأساة ذلك كانت الحرب الأهلية…”. 
سبقت كلمة بوتين رسالة من “ملهمه العقائدي” الكسندر دوغين، حملت الأفكار عينها، وكأنّ شخصاً واحداً كتب الرسالتين. فقد ذكّر دوغين في رسالة للشعب الروسي بأحداث 1917 قائلاً: “كان علينا أن ننتصر في الحرب العالمية الأولى، لكن عشية الهجوم ربيع العام 1917 حدث انقلاب عسكري في روسيا… ويعلم الجميع ما حدث بعد ذلك: انغمست روسيا في فوضى الثورة والحرب الأهلية. في سياق الأحداث التي أعقبت انقلاب شباط (فبراير) 1917، من بين أمور أخرى لسوء حظ الشعب الروسي، تمّ إنشاء أوكرانيا “المستقلّة”. نشعر بالعواقب المحزنة لهذه الأحداث حتى يومنا هذا…”.  
نحن إذاً امام أزمة خطيرة تواجهها روسيا. ومن الواضح أنّ الحرب على أوكرانيا التي شنّها الرئيس فلاديمير بوتين في 24 شباط (فبراير)2022، فاقمت من نقاط الضعف البنيوية التي كانت تنخر الإتحاد الروسي، وماكينة الدولة ومؤسساتها، لاسيما الجيش. فتعثّر العملية العسكرية منذ الأيام الأولى للهجوم الروسي، وفشل الجيش الروسي في تحقيق انتصار واضح على الجيش الأوكراني المدعوم من “حلف شمال الأطلسي” وفي المقدّمة الولايات المتحدة، وظروف الجيش الروسي السيئة تسليحاً، وتدريباً، وتجهيزاً، ولوجيستياً، حالت دون انتصار موسكو، وغرقها في وحول صراع طويل على الأراضي الأوكرانية، في مقابل تحسّن أداء الجيش الأوكراني وانتقاله بسرعة من وضعية الدفاع إلى وضعية الهجوم على تشكيلات “ثاني أقوى جيوش العالم”.
ما سبق، إضافة إلى ضعف القيادة العسكرية، وانفصالها على واقع الأرض، الفساد المستشري في الطبقات العلا من القيادة، فيما كان الجنود على الأرض يُقتلون بأعداد ضخمة، ضرب معنويات، وأفقد موسكو المبادرة بسرعة كبيرة.
ولعلّ انخراط قوات مجموعة مرتزقة “ڤاغنر” الأفضل تدريباً، وتسليحاً في المعارك، لاسيما في مدينة باخموت الشهيرة، ما غيّر في المعادلة. فبدا الفارق كبيراً بين قتال “ڤاغنر” و قتال الجنود النظاميين، وجلّهم من الشباب في مطلع العشرينات من الاحتياط، او هم مستدعون إلى الجيش من الفئات العمرية المتقدّمة نسبياً والسيئة التدريب والتجهيز. وسرعان ما نشب خلاف علني كبير في الأشهر الماضية بين بريغوجين ووزير الدفاع سيرغي شويغو، أثّر كثيراً على انتظام الحرب الروسية، وعلى تماسك القوات على الأرض.
وفي الوقت نفسه، ظلّ بوتين بعيداً من الخلاف. لكن تردّي الأوضاع على الجبهات، والمؤامرات المتبادلة بين الطرفين، دفعت الأمور إلى نقطة الانفجار التي نحن بإزائها اليوم. فروسيا أمام استحقاق مؤلم. قد ينجح بوتين في حسم المعركة ضدّ بريغوجين بسرعة، إما بقتله او بهزيمة قواته. لكن آُثار الأزمة سترتد لمدة طويلة على الواقع الداخلي، وتُضعف سلطة بوتين، ووهجه. أما إذا طالت الأزمة، فقد تتردّى الأمور أكثر، وتدخل روسيا في نفق لا يعرف حتى أكبر الخبراء الدوليين المتخصّصين بالشأن الروسي مداها، وخطورتها على الداخل، أو على المن العالمي ( السلاح النووي ). وثمة من يسارع من المراقبين إلى الحديث عن بوادر حرب أهلية. لكن من الصعب جداً توقّع حرب أهلية في اليوم الأول للتمرّد. إنما العواقب، مهما حصل، ستكون سيئة للغاية في روسيا. فلننتظر ونراقب.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى