أقلام وأراء

علي الصراف: خليفة حفتر المعركة الأخيرة

علي الصراف 17-8-2022م

يخوض خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، آخر معاركه: النجاة بالنفس.

خلف ستائر هذه المعركة، تخاض كل المعارك الأخرى، وكأنها هي المعارك الحقيقية.

أبناء حفتر يقومون بتصفية ممتلكاتهم العقارية في الولايات المتحدة، تمهيدا للانسحاب منها. المعركة هناك انتهت بقرار قاض فيدرالي في ولاية فرجينيا، حيث عاش حفتر لنحو ربع قرن، يدينه بارتكاب جرائم حرب. الحكم الذي صدر في يوليو الماضي، وإن كان لا يزال قابلا للاستئناف، إلا أنه بوضوح معركة خاسرة بالنسبة إلى المشير.

وكان حفتر تخلى عن جنسيته الأميركية لأجل أن يدخل الانتخابات التي كانت مزمعة في ديسمبر الماضي. هذه المعركة انتهت بالفشل، من ناحية، لأن وجوده فيها كان أحد الدوافع لإفشالها من جانب خصومه في غرب البلاد. ومن ناحية أخرى، لأن التمزّقات في البلاد أوسع من أن تعيد خياطتها انتخابات رئاسية وبرلمانية. وهو واقع لا يزال قائما حتى الآن.

لعدة سنوات، في خضم هذه الأزمة، ومع تولي الميليشيات والمرتزقة إدارة السلطة في طرابلس، بدا حفتر وكأنه هو الحل.

معركة “كرامة ليبيا” التي شنّها في مايو 2014، ضد المجموعات الإرهابية في بنغازي، قدمته كقائد عسكري جدير بالاعتبار، ولكنها منحته أرضا يقف عليها، أملا بأن تكون قاعدة انطلاق لتوحيد ليبيا تحت قيادة شرعية. وحيثما كان مجلس النواب هو الشرعية الوحيدة الباقية، فقد وفر “الجيش الوطني” البديل غطاء أمنيا وقدرات عسكرية لهذه الشرعية.

حفتر كسب شرعية في مقابل هذه الخدمة. فبعد أن أنشا جيشا من بقايا الوحدات التي تمردت على سلطة الميليشيات في طرابلس، فقد حصل على تعيين رسمي كقائد لـ”الجيش الوطني الليبي” من قِبل مجلس النواب في العام 2015.

ولئن حصل حفتر على كل ما قد يحتاجه من دعم ومساندة، باعتباره القوة القادرة على إعادة توحيد البلاد، وطرد المرتزقة وإنهاء حكم الميليشيات، إلا أنه خسر هذه المعركة في يونيو 2020 عندما فشلت قواته في اقتحام مدينة طرابلس.

أسباب الفشل لم تكن تتعلق بمجريات المعركة وقدراتها العسكرية، ولكنها تتعلق بفهم الأزمة من الأساس. فالميليشيات التي بقيت تهيمن على مدن الغرب، وبالدرجة الرئيسية في طرابلس ومصراتة، كانت تجسيدا لتمزقات عشائرية وجهوية، لم يكن من الممكن “سحقها” بالقوة الغاشمة. أي قوة ما كان بوسعها أن تفعل ذلك. إنها تمزقات اجتماعية، ثم أصبحت تمزقات مسلحة أو لها تعبيرات مسلحة تقصد حمايتها من الغلبة التي قد يفرضها نظام شمولي كنظام العقيد معمر القذافي، أو من الغلبة التي قد يفرضها منافسون آخرون يميلون إلى دعم مدنهم أو مناطقهم على حساب الآخرين.

لم يدرك حفتر هذه المسألة إلا متأخرا. فبدأ السعي إلى تسويات وترضيات قصدت اجتذاب الأطراف الأخرى.

إعادة توحيد الجيش، ظلت تبدو شأنا أسهل. بالنظر إلى أن طبيعته كمؤسسة وطنية وكممثل لسلطة مركزية، هي التي تبعده عن تلك التجاذبات الجهوية. هذه الصفة تجعله خصما طبيعيا للميليشيات أيضا.

لم ينجح حفتر حتى في هذه المعركة. الاعتبارات الشخصية هي التي غلبت عليه. ولولا الرعاية الأممية، وضغوط الأبواب الخلفية، لما كان بوسع اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 أن تحقق شيئا يذكر على صعيد الهدنة أو المحافظة على استقرار خطوط التماس وفتح الطرق وتبادل المحتجزين.

من “حسم المعركة عسكريا” إلى “حسم المعركة عن طريق الانتخابات”، ظلت الأمور بالنسبة إلى حفتر مجرد “معركة”. أي أنها تخاض بوسائل الغلبة ومحاولات التمويه والالتفاف على العدو والسعي لاقتحام مواقعه من الخلف، حيثما لم يمكن اقتحامها من الأمام.

تحالف حفتر مع وزير داخلية حكومة الوفاق فتحي باشاغا، وتدبر تكليفه برئاسة الحكومة في الشرق، على أمل أن تكون بديلا لحكومة عبدالحميد الدبيبة. وعندما لم يحقق باشاغا الهدف، ولم يتمكن من العودة إلى طرابلس، تحالف حفتر مع الدبيبة أيضا، من دون أن يتخلى عن باشاغا.

المسألة ظلت مسألة “تدابير معركة”، تجري تحت غطاء التمسك بإجراء انتخابات، باعتبارها هي الحل.

الانتخابات البرلمانية والرئاسية يمكن أن تكون حلا بالفعل. والقناعة السائدة لدى معظم الأطراف الدولية الفاعلة، هي أنها الحل الوحيد. ولكن مثلما أن لهذه الأطراف الدولية تصوراتها المتنافرة لطبيعة الوجهة التي يتعيّن على ليبيا أن تتخذها للمستقبل، فإن للأطراف المحلية المختلفة تصوراتها المتنافرة أيضا.

المسألة، كما يُنظر إليها الآن، لا تتعلق بالأسس، وإنما بالنهايات. أي أنها لا تتعلق بطبيعة نظام الحكم وآليات عمله ومدى توافقه مع طبيعة التجاذبات الجهوية والقبائلية، ولكنها تتعلق بمن هو الذي سيفوز بالانتخابات. أو من سيكون الرئيس، ومن هي الأطراف التي سوف تهيمن على مجلس النواب المنتخب.

المعركة التي تخاض على أساس هذه النهايات، ثبت أنها معركة فاشلة، ولسوف يثبت باستمرار أنها فاشلة حتى ولو دامت الأزمة لعدة عقود إضافية من الزمن.

هذه معركة، لا يمكن أن يكسبها أحد. لأنها معركة تخاض بسوء الفهم، من ناحية، وبغايات شخصية ضيقة من ناحية أخرى.

يحسب حفتر أنها سبيله الوحيد للنجاة. وهذا صحيح وخطأ أيضا. صحيح، إذا ما تمكن من الفوز بالرئاسة وفقا لصفقة يعقدها مع رؤوس النفوذ على الطرف الآخر، مثل باشاغا والدبيبة وغيرهما من قادة الميليشيات، بل وحتى مع جماعة الإخوان المسلمين، بوصفها النواة الصلبة للهوية الميليشياوية للجهات والجبهات والعائلات. ولكنه خطأ، لأنه يُبقي جمرة الانقسامات والمخاوف قائمة بين كل الأطراف، لاسيما من عودة الشمولية “القذافوية” التي يُنظر إلى حفتر على أنه امتداد لها. لاسيما وأن هذه الشمولية تتنافس الآن مع ممثل آخر لها هو سيف الإسلام القذافي الذي يسرق المزيد من النفوذ في مناطق سيطرة حفتر، كما يسرق من فشله بالذات.

السعي لكسب معركة النجاة بالنفس، يعود إلى جرائم حرب ارتكبتها قواته على مدار السنوات بين العام 2014 و2020. ولكن الكل ارتكب جرائم حرب في ليبيا. وجود الميليشيات والمرتزقة وبيع ليبيا لتركيا، هو بحد ذاته جريمة من جرائم الخيانة العظمى.

والرئاسة قد تكون حلا، إنما قسريا لتسوية المطالب بالقوة الغاشمة للسلطة. ولكنها ليست الحل الوحيد. المصالحة الوطنية الشاملة، هي الحل. الاعتراف المتبادل بارتكاب أخطاء وطلب التسامح بشأنها وتقديم تعويضات تتكفل بها الدولة الليبية الجديدة، هو الحل. هيئة وطنية للحقيقة والمصالحة على غرار الهيئة التي تشكلت في العام 1995 لطي صفحة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، هي الحل.

هذا شيء يجب أن يحصل قبل أي انتخابات. إنه في الواقع أهم من البحث في القضايا الدستورية، التي يتجادل المتجادلون فيها حول نصوصها، بينما هم يضمرون المخاوف من بعضهم البعض. يحاولون لوي أعناق النصوص لتستذكر تلك المخاوف، بدلا من أن يعالجوا المخاوف نفسها.

العفو العام والشامل والمتبادل، هو الاستئناف الصحيح، ليس ضد القضية المرفوعة ضد حفتر في الولايات المتحدة، ولكن ضد الاعتراضات على دوره وقيادته في ليبيا نفسها.

وحالما يُعاد تأسيس النظام، وتستند ركائزه الشرعية على توافقات اجتماعية لا غلبة فيها لأحد على أحد، وتكون المصالحة الوطنية قد تحققت بالتراضي والتسامح العميقين، فإن خليفة حفتر واحد من أفضل المؤهلين لتولي الرئاسة.

ارسِ أساسا صلبا. فإن لم تأت الرئاسة اليوم، فقد تأتي غدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى