أقلام وأراء

علاء الدين أبو زينة يكتب –  مهمة “الرجل الأبيض”..!

 علاء الدين أبو زينة *- 5/9/2021    

تحكي قصة أفغانستان آخر فصل فقط من قصة “عبء الرجل الأبيض” التي أنهكتنا طويلاً. وبدأ هذا الفصل الأخير بتأجيج المشاعر الدينية وتجنيد حلفاء الولايات المتحدة لتشجيع وتسهيل ذهاب “المجاهدين” الغيورين على الإسلام لمحاربة السوفييت الكفار وغير الديمقراطيين، الذين غزو أفغانستان هم أيضاً من أجل حرية الأفغان. وفي ذلك الحين، كان هؤلاء المقاتلون، الذين أصبحوا “طالبان” و”القاعدة” ثم “داعش”، يوصَفون في أميركا بأنهم “المقاتلون من أجل الحرية”.

ثم تغيرت الشروط، وغزت أميركا وحلفاؤها الأوروبيون أفغانستان في “الحرب على الإرهاب” لاستئصال “أعداء الحرية” الذين كانوا المقاتلين من أجلها بالأمس. ثم غزا هؤلاء العراق لجلب الحرية للعراقيين من نظام وُصف بأن علاقات تربطه بـ”القاعدة”، ويمتلك أسلحة دمار شامل لا ينبغي أن يمتلكها العرب، لأنها حكر على “البيض” و”إسرائيل” التي يُميز فيها البيض الغربيون ضد أبناء جلدتهم الشرقيين الملونين.

وتزايدت التدخلات “لتغيير الأنظمة” في سورية وليبيا ودول في إفريقيا اللاتينية– بهدف إنقاذ الشعوب من الطغيان ونشر قيم “الرجل الأبيض” التي رفعت لواءها الولايات المتحدة بعد بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وبقية المستعمِرين الذين تحملوا العبء المرهق: إخراج الآخرين من الهمجية إلى الحضارة، وصناعة عالم يسوده الخير، والعدل، والجمال.

الآن، يحكُم منظّرو تبرير المهمة في أفغانستان والعراق وباقي التدخلات تحت هذه اليافطة بأنها فشلت. وفي الحقيقة، تُركت كل الأماكن التي تواجد فيها المحرِّرون الغربيون مدمَّرة ومتخلفة عقوداً. وقبل ذلك، تركت مهمات “الرجل الأبيض” في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية شعوب تلك المناطق في حالة يُرثى لها من الفقر والبؤس وارتباك الهوية. وأينما نظرتَ، وفي أي زمن تأمّلت، كانت نتائج مهمة “الرجل الأبيض” هي استعباد الآخر– حتى حرفياً- ونهب ثرواته وإعدام إمكانياته باستخدام أكثر الأساليب بُعداً عن الأخلاقية، وأكثر الأدوات همجية على الإطلاق. وحيثما حلّ “البيض” وجدت مزيدًا من البعد عن الديمقراطية والتحضر، وسيادةً للفساد والاستبداد.

كانت قيم الغرب الحقيقية التي نشرها، كما عرفناها بكلفة هائلة نحن في كل العالم التابع، هي الهيمنة، وتعظيم الربح، وإبقاء الآخر مستهلِكاً وعاجزاً عن المنافسة، والاعتقاد بالصلاح الذاتي والتأكيد على ضلال الآخر وجهله. وكل الوقت، احتكر الغرب إنتاج المعرفة وأدوات القوة وحرم الآخر من إمكانية إنتاجها بنفسه ولنفسه. ولأنه عاجز عن تحقيق إمكانياته، سيحتاج هذا الآخر دائماً إلى وصاية “الأخ الأكبر” المحلي وسيده الغربي الأبيض.

مع ذلك، وعلى الرغم من افتضاح المعنى الحقيقي لـ”عبء الرجل الأبيض” بنتائجه المرعبة على الأرض كل الوقت وفي كل مرة، ما يزال الغرب يتحدَّق بإيمان مطلق عن أخلاقية تدخلاته واستئثاره بالهيمنة. وعلى سبيل المثال، كتب أندرس فوغ راسموسن، الدنماركي شغل منصب الأمين العام لحلف ورئيس وزراء الدنمارك:

“يجب ألا تتخلى الديمقراطيات في العالم عن النضال من أجل الحرية والديمقراطية في جميع أنحاء العالم. وقد جادلت بعض الأصوات في الولايات المتحدة بأن النتيجة في أفغانستان تظهر عدم جدوى تلك الأجندة. ولكن، لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة من ذلك. فالحرية والديمقراطية تظل قيمًا إنسانية أساسية وليست غريبة عن أي ثقافة، ويتردد صداها عالميًا- بما في ذلك لدى العديد من الأفغان الذين استفادوا من هذه القيم على مدار العشرين عامًا الماضية. خلال وجودنا، عاش جيل كامل تجربة أفغانستان حيث تمكنت الفتيات من الذهاب إلى المدرسة وازدهر المجتمع المدني. كما صوّت الأفغان في الانتخابات وأسسوا مشاريع تجارية واستفادوا من الاتصالات الدولية”.

ويضيف: “يحتاج العالم إلى قيادة أميركية قوية لتعزيز الحرية. وفي وقت تتزايد فيه القوى الاستبدادية، سيكون الأمر كارثيًا إذا فقدت الولايات المتحدة والدول ذات التفكير المماثل الإيمان بقيمنا. وفي الوقت نفسه، يجب أن تعلمهم تجربتهم في أفغانستان كيفية تعزيز القيم الديمقراطية بشكل أكثر فاعلية في جميع أنحاء العالم… وقد أثبتت الولايات المتحدة وحلفاؤها، تاريخيًا، أن الوجود العسكري طويل الأمد يضمن الاستقرار الضروري لتمهيد الطريق للسلام والحرية والديمقراطية”.

ماذا نفعل نحنُ مع هذا الخطاب المتناقض، ومع الذين يصدّقونه بيننا؟ في السابق، دفعت الشعوب التي استعمرها البيض “المخلِّصون” ثمناً فادحاً من أجل حرياتها. واليوم، ما يزالون يريدون تعليمنا “القيم” بـ”الوجود العسكري طويل الأمد” من أجل إهدائنا السلام والحرية والديمقراطية. ما العمل؟!

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى