أقلام وأراء

عقيل عباس: الفساد وتحوّلات الفهم في العراق

عقيل عباس 16-8-2022

يثير الفساد أشد أنواع الغضب المشروع بين العراقيين ضد الطبقة السياسية الحاكمة، إذ صار الصفة التعريفية الأساس للنظام السياسي العراقي، متجاوزاً، في انتشاره وتَجذّره، الاختلافات العرقية والدينية. وصل هذان الانتشار والتجذر إلى حد أن أعضاء الطبقة السياسية أنفسهم، كرداً وسنةً وشيعة، يقرون بالفساد كحقيقة راسخة يستحيل تغييرها من دون تصدع عميق في النظام السياسي أو نهايته. على هذا النحو أيضاً، صارت معارضة الفساد صفة تعريفية لغضب المجتمع ضد الطبقة السياسية، إذ تُوحّد النقمةُ الشعبية ضد الفساد العراقيين، كمجتمع، ضد الساسة ومنظومة الأحزاب المتشاركة بالحكم والثروة والنفوذ.

ساهمت تجربة النظام السياسي العراقي الصعبة، التي تبدو الآن مثل كابوس مفتوح نهايته ليست منظورة، في إعادة صياغة فهم الناس العاديين لمعنى الفساد، بوصفه خطراً حقيقياً على المجتمع، على أنه سلوك سياسي يتعلق بكيفية إدارة المال العام وليس سلوكاً اجتماعياً يتعلق بالخيارات الفردية للأشخاص العاديين. قبل عام 2003، كان الفهم الشائع للفساد في البلد مختلفاً كثيراً ويتمحور حول الأخلاق عبر ربطه بالسلوك الخاص للأفراد في حيواتهم الشخصية وتشخيصه على أساس منظومة الأخلاق الاجتماعية السائدة التي يهيمن عليها خليط من قيم عشائرية وأخرى دينية. بلغ هذا الفهم الأخلاقي للفساد ذروته في السنوات الأولى من حياة النظام السياسي الجديد إذ ساهمت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، كجزء من ايديولوجيتها المتعلقة بالإصلاح الأخلاقي للمجتمع عبر الدين، في ترسيخه مستفيدةً من تجربة الحملة الايمانية التي شرع بها النظام البعثي السابق في التسعينات في إطار سعيه لتوفير ملاذات روحية ونفسية للمجتمع، هروباً من وطأة العقوبات الاقتصادية القاسية التي تسببت بها سياساته جراء غزوه الكويت في 1990.

في السياق الأيديولوجي للأحزاب الإسلامية الشيعية المتصدرة مشهد السياسة، كان “حسن الأخلاق”، بالفهم الديني والاجتماعي السائد له عراقياً وعربياً حينها، مكسباً سياسياً، بسبب الربط الوثيق في داخل هذا الفهم بين الأخلاق الدينية وجودة الحكم. فالحاكم الجيد هو صاحب التقوى الدينية الذي يخاف الله، وبالتالي يراعي مصالح الناس في حكمه. لعب هذا الفهم التراثي لعلاقة الأخلاق بالسياسة دوراً مهماً في الانتصارات الانتخابية المتتابعة التي حققتها الأحزاب الإسلامية الشيعية، بدعم من المرجعية الشيعية التي تبنت أيضاً هذا الفهم ورَوجت له لمصلحة هذه الأحزاب.

بمرور السنوات، عندما ظهرَ جلياً فشل هذه الأحزاب في إدارة الدولة وانغماسها في الفساد بالتشارك مع أحزاب كردية وسنية والعناء المتصاعد للناس من النتائج الكارثية لهذا الفساد، بدأ عموم المجتمع يتحرر من النظرة التراثية لمعنى الأخلاق وصلتها بالسياسة، لصالح نظرة أخرى حداثوية أخذت تتشكل تدريجياً تقوم على ربط الوقائع المادية المحسوسة لسياسات السلطة بتقييم الأداء السياسي للأحزاب التي تمسك بالسلطة. لم يكن الأمر يحتاج الكثير من الجهد لاكتشاف المأزق العميق الذي أدخلت هذه الأحزاب البلد فيه جراء تغولها على المال العام وإساءة إدارتها له وتكاتفها البنيوي، بغض النظر عن اختلافاتها السياسية والهوياتية، لمنع المساءلة القانونية عن الفساد الناتج عن أي منها.

في إطار هذه النظرة الحداثوية التي لم تأخذ شكلاً متماسكاً على صعيد المعرفة بسبب شحة المعلومات الموثقة والدقيقة عن الفساد وهيمنة الغضب الشعبي في الرد عليه بعد اليأس من التعقب القضائي والمؤسساتي له، برزت مقولات اشكالية ترسخ أحاسيس العجز بخصوص امكانية فعل أي شيء جدي لردع الفساد مثل شمول كل ساسة نظام ما بعد 2003 به، على المستوى الفردي، واستحالة ردعه عبر أي إصلاح مؤسساتي أو جهد شعبي في ظل النظام الحالي. قد يساعد فهم دقيق للفساد على تجاوز هذه المقولات ووضع المشكلة العراقية بخصوص الفساد في إطارها الصحيح.

أحد التصنيفات السائدة للفساد هو التمييز بين نوعين منه: الفساد السياسي والفساد البيروقراطي. منذ عقد التسعينات، اعتاد العراقيون على التعاطي مع النوع الثاني كحقيقة يومية في حياتهم: الفساد البيروقراطي. يختص هذا الفساد عموماً بالمؤسسات العامة التي تقدم الخدمات المختلفة للمواطنين من مدارس ومستشفيات ودوائر الضرائب والتسجيل والملكية والمرور والشرطة وسواها. يقوم عاملون في هذه المؤسسات بابتزاز المواطنين عبر طلب الرشاوى و”الهدايا” من أجل حصول هؤلاء المواطنين على الخدمات. هذا الفساد ليس موجهاً ولا مُنظماً وإنما يحدث بسبب ضعف الرقابة وهشاشة الردع المؤسساتي وتراجع قيمة الأجور التي توفرها الوظيفة الحكومية للموظفين العموميين. يُضعف هذا الفساد الحافزَ الاقتصادي لدى المستثمرين ويبطئ حركة الاقتصاد، خصوصاً في الدول التي يسود فيها التخطيط المركزي وتهيمن الدولة فيها على الموارد الاقتصادية. أما النوع الأول، الفساد السياسي، فهو الأشد خطورة والأكثر تأثيراً سلبياً على الاقتصاد وحياة المجتمع لأنه فساد موجه ويُدار من أعلى السلطة ويتحكم بموارد واسعة. يعني الفساد السياسي قيام صناع القرار المنتخبين، بتغيير وظيفة السلطة الممنوحة لهم من خدمة الصالح العام للمجتمع، الذي هو سبب انتخابهم ووجودهم على سدة التشريع والحكم، إلى خدمة الصالح الخاص المتعلق بهم وعوائلهم وشركائهم وحلفائهم.

يشمل الفساد السياسي طيفاً واسعاً من الأفعال مثل صناعة قوانين وأنظمة فاسدة وتحريف تطبيق القوانين والأنظمة الجيدة بما يؤدي إلى منح عقود لشركات غير مؤهلة وتكليف غير المؤهلين بالمهام والوظائف المهمة وتلقي الرشاوى والعمولات ووضع الأولويات السياسية والاقتصادية الخاطئة من أجل المنفعة الخاصة وليس العامة. في آخر المطاف، وعلى مدى زمن طويل نسبياً تؤدي هذه الأفعال القصدية الى إغناء أقلية صغيرة متحالفة مع صناع القرار الفاسدين ومتشاركة معها في المكاسب، على حساب المجتمع الذي يتعرض إلى إفقار تدريجي يمكن له أن يتحول إلى غضب شعبي تزدهر فيه دعاوى شعبوية تلقى رواجاً بين الجمهور.

مؤسساتياً، تَغذى الفساد السياسي في العراق على منظومة الديموقراطية التوافقية للحكم وادارة الدولة التي تشكلت بين عامي 2003 و2005. في الذهن الشعبي واللغة السياسية الشائعة اتخذت هذه المنظومة تسميتي التوافقية والمحاصصاتية التي بموجبها يحصل كل الفائزين بمقاعد برلمانية في الانتخابات العامة على حصة في السلطة التنفيذية متناسبة مع عدد مقاعدهم. لعب إلغاء التنافس السياسي عبر الوأد المبكر لفكرة المعارضة البرلمانية وتوزيع مؤسسات الدولة على أحزاب سياسية مختلفة دوراً بارزاً في صناعة التواطؤ السياسي اللازم لتوفير الحصانة من العقاب على الأفعال الفاسدة والخارقة للقانون، فيما اكتفى قضاء مُسَيّس بإمضاء الصفقات السياسية الفاسدة وبغض الطرف عن المخالفات القانونية الفادحة التي يرتكبها الساسة وشركاؤهم من رجال الأعمال ليصير الفساد في البلد بنيوياً ومتجذراً. عبر هذا كله، أصبح النظام السياسي يُعَرَّف على أساس وظيفته الاقتصادية غير المعلنة: نظام كليبتوقراطي، أي النظام السياسي الذي يقوم على النهب المنظم والواسع للموارد العامة من جانب طبقة الساسة الماسكين بالسلطة. الترجمة العربية الشائعة للكليبتوقراطية هو نظام اللصوصية أو نظام حكم اللصوص.

في أيامنا هذه، يعيش النظام الكليبتوقراطي العراقي إحدى أشد أزماته بإزاء مجتمع غاضب يتصاعد رفضه له باضطراد. المفارقة هي أن أساطين هذا النظام لا يدركون عمق أزمة نظامهم والغضب الشعبي ضده والآفاق المحدودة التي تضيق بسرعة أمامه. من يقوده حس زائف بالثقة تفاجئه دائماً النتائج المتوقعة للأفعال الخاطئة.

قبل أشهر، في سياق سعي التيار الصدري، بعد تشكيله تحالفاً ثلاثياً ضم طرفَين سياسيين، سنياً وكردياً، لتشكيل حكومة أغلبية سياسية واعلانه أجندة حكومية مقبلة يتصدرها مكافحة الفساد، كان أحد الردود الإطارية المتكررة لرفض مثل هذه الحكومة والدفاع عن المنظومة التوافقية المعتادة، أن كل الأحزاب السياسية، بضمنها أحزاب التحالف الثلاثي، متهمة بالفساد، فلماذا يحق لأحزابه تشكيل حكومة الأغلبية وتُستثنى منها الأحزاب الأخرى، المتهمة أيضاً بالفساد أيضاً. شاعت هذه المقولة شعبياً لتتخذ شكل حجة منطقية “قوية” كررها عراقيون عاديون ومحللون سياسيون، فضلاً عن تبني سياسيين كبار لها وراء الكواليس. تنطوي هذه المقولة على الكثير من التضليل والمغالطة وتساهم في الإبقاء على الفساد منتشراً ومهيمناً عبر الحفاظ على مصدره السياسي: التوافق والمحاصصة. لكنها في الجانب الآخر منها، تختصر أيضاً مشكلات الفساد ومفارقاته والتواطؤ بخصوصه وسبل حلها أيضاً.

من الناحية القانونية، تقوّض هذه الحجة معنى الانتخابات ونتيجتها كمعيار تنافسي بخصوص من يتولى الحكم ومن يذهب للمعارضة لصالح افتراض بتشارك كل الأطراف السياسية الحائزة على مقاعد برلمانية في سلوك ما شائع جداً لكنه غامض أيضاً، الفساد، إذ لا يمكن تحديد حصة كل طرف سياسي فيه، أو حقيقة المشاركة فيه، على نحو دقيق أو حتى تقريبي في غياب قدرة القضاء على كشف الفاسدين وإدانتهم. في الأنظمة الديموقراطية التي فيها فصل حقيقي ونزيه بين السلطات الثلاث وقدرة واضحة ومخلصة لكل منها على تأدية التزاماتها الدستورية والقانونية، خصوصاً السلطة القضائية، المسؤول الأول عن تعقب الفساد ومحاسبة فاعليه، الذي يحسم علاقة أي سياسي بالفساد من عدمها، هو قضاء فعال وعادل يحظى بمصداقية شعبية وأخلاقية أمام الجمهور. يمنع مثل هذا القضاء في الأنظمة الديموقراطية خوضَ المدانين بقضايا فساد للانتخابات. مع الانتشار الهائل والمتفق عليه والمُقر به علناً ورسمياً، بخصوص الفساد في مؤسسات الدولة وعقودها وبرامجها، يترشح الساسة المنتخبون الذين يديرون الدولة مرةً بعد أخرى في الانتخابات ويفوزون ويصلون لسدة الحكم من جديد. يقود هذا العجز القضائي عن ردع الفساد وحسم مقدار انتشاره وهوية القائمين عليه، إلى تحويل الفساد إلى جدل سياسي وإعلامي مفتوح يحسمه الأشد براعة في الكلام وتوظيف الإعلام، وليس بالضرورة الأصدَق والأخلَص.

في سياق رفض أطروحة حكومة الأغلبية تحت حجة تشارك الجميع، الفائز والخاسر انتخابياً، بالفساد، يُكافَأ الفاسدون المفترضون جميعاً بتمثيلهم في الحكومة! هذه واحدة من أشد مفارقات عراق ما بعد ٢٠٠٣ مرارةً: أن يصبح الفساد وإعلان التشارك فيه أحد عوامل التأهل لممارسة الحكم والسلطة وليس تحمل العقوبة والذهاب للسجن وفقدان السمعة السياسية والشخصية.

ثمة أدوات كثيرة لمكافحة الفساد بنوعيه البيروقراطي والسياسي، بعضها إداري وبعضها الثاني تكنولوجي فيما بعضها الثالث قضائي. أولها كانت فكرة الحكومة الالكترونية، أي أتمتة المعاملات والعمل الورقي في دوائر الدولة بحيث يُختصر الروتين الإداري الطويل والمرهق ولا يحتاج المواطن أن يمر على دوائر عديدة ويلتقي موظفين كثيرين ومختلفين ويتعرض لاحتمالات الإكراه على تقديم رشوة لإكمال معاملة ما. أثيرت هذه الفكرة الطموحة والصحيحة مبكراً، في عام ٢٠٠٣، وتحدثت عنها حكومات متتابعة دون أن ينتج عن الحديث تقدم جدي وحقيقي. هُدد موظفو الشركة الأجنبية التي بدأت بالعمل لتنفيذ هذه الفكرة في ما بعد، واختطفوا وقُتل بعضهم إلى أن مات تنفيذها عملياً.

الأداة الثانية المهمة هي مكاتب النزاهة التي تشكلت في الوزارات، بأمر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، لمكافحة الفساد بشكل مستقل عن سلطة الوزارات ومسؤوليها. لكن سُرعان ما أفسدت هذه الفكرة الصحيحة عبر تسييس هذه المكاتب من خلال المحاصصة والتواطؤ لتفقد فاعليتها بسرعة وتصبح عبئاً على الدولة وجهازها الإداري.

بإزاء فشل الأدوات الإدارية والقضائية في تعقّب الفساد وردعه، لم يتبق إلا نوعان من الأدوات التقليدية لمكافحة الفساد التي يمكن أن تكون مؤثرة. الأولى والأهم هي التنافس السياسي المفتوح والدائم المحكوم بشروط مؤسساتية وقانونية. يعني هذا وجود أغلبية حاكمة في السلطة، وأقلية معارضة في البرلمان تستطيع عبر الرقابة على الأغلبية كشفَ ملفات فساد حكومية، وصولاً الى قدرتها على الإطاحة بالحكومة في حال كشفها ملف فساد كبير وفضائحي.

في العادة تمهد نجاحات المعارضة في كشف الفساد الحكومي السبيل أمامها للفوز في انتخابات مقبلة، كما أن وجود رقابة المعارضة يدفع الحكومة للالتزام بدرجات أعلى من النزاهة خوفاً من الإحراج السياسي والفشل الانتخابي. في السياق العراقي المعبأ بالفساد، مَثّلت أطروحة الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة تقدماً كبيراً في التفكير السياسي في البلد واختباراً عسيراً للفاعلين السياسيين، الحاكمين والمعارضين، بخصوص امكانية المساءلة والشفافية بعدما نخر الفساد مؤسسات الدولة وتصاعد الغضب الشعبي ضده. تكمن أهمية الأطروحة في جانبين: الأول هو كسرها للتواطؤ السياسي الذي يعتبر الحامي الأول للفساد في البلد عبر التغطية المتبادلة عليه. أما الجانب الثاني، الذي لا يقل أهمية عن الجانب الأول، فهو أنه يجبر الأغلبية الحاكمة على مواجهة الفساد في داخل أحزابها بسبب التنافس السياسي المفروض عليها من جانب المعارضة.

هنا أيضاً تكمن جرأة الأطروحة الصدرية بخصوص حكومة الأغلبية، فالصدريون أيضاً متهمون بالفساد عبر الوزارات التي تولوها على مدى السنوات والأمر نفسه ينطبق على شركائهم السنّة، تحالف “السيادة”، والأكراد، الحزب الديموقراطي الكردستاني، المُتَهمَين بالفساد في سياقات مختلفة. يعني قبول الثلاثة بالدخول في تحالف حاكم استعداداً أولياً، ربما أكثر لدى التيار الصدري صاحب الأطروحة من شريكيه الآخرين المُضطَرين للقبول بها لأسباب مصلحية بسبب حاجتهما لشريك شيعي في الحكم، لمواجهة حقائق الفساد المتعلقة بهم والتي سيُجبَر الثلاثة على التعاطي معها رداً على اثارة المعارضة ملفات الفساد ضدهم. يفسح كل هذا حيزاً جديداً وغير مسبوق لمواجهة تمدد الفساد وتجذره. لكن في النقاش العراقي ما بعد الانتخابات، ذهب الجدل بالاتجاه الآخر عبر المقولة المضللة انه ما دام الجميع فاسدين فالأفضل أن يتشاركوا جميعهم بالحكم، وهو الموقف الضمني للإطار التنسيقي، ويستمرون في التواطؤ المعتاد الذي يواصل الفساد ويحمي الفاسدين، أو يخرج الجميع من الحكم لأنهم غير صالحين له، موقف الجمهور الغاضب. الموقفان خاطئان لأنهما يفشلان في اقتراح سبيل للتعاطي مع مشكلة الفساد. على العكس من هذين الموقفين، الانتهازي الإطاري، والطهراني الشعبي، اللذين يصران على الثنائية المستحيلة بخصوص الكل أو لا شيء، تقترح أطروحة حكومة الاغلبية البدء بمكان ما في مكافحة الفساد والبناء عليه تدريجياً. لم تُختبر هذه الأطروحة لمعرفة احتمالات نجاحها بعد إفشالها بتواطؤ سياسي – قضائي من خلال الثلث المعطل.

بإزاء هذا المشهد المتجهم، لم تتبق إلا الأداة الأخيرة لمكافحة الفساد، الوحيدة خارج إطار الدولة، وهي الصحافة والتسريبات الإعلامية التي تكشف ملفات فساد أمام الرأي العام. شهد البلد مؤخراً أحد النجاحات القليلة بهذا الصدد عبر الكشف عن فضيحة حكم قضائي بتعويض شركة، مرتبطة بأحزاب سياسية، بمبلغ ٦٠٠ مليون دولار كشرط جزائي على فشل المؤسسة الحكومية المتعاقدة في تأدية التزاماتها المفترضة في العقد مع هذه الشركة. كان التعويض هائلاً ويبدو مرتبطاً بترتيبات مسبقة تقود إليه. لكن عموماً، قدرة الإعلام العراقي على كشف ملفات فساد كبيرة وكثيرة محدودة لأسباب مختلفة ومتشابكة. تشمل بعض هذه الأسباب عدم وجود قانون عراقي يسمح للصحافيين بالوصول للمعلومات الحكومية والعامة غير الخصوصية وغير المتعلقة بالأمن الوطني، كما هو الحال في الديموقراطيات الرصينة. ثم هناك فقر مهني واضح في تقليد الصحافة الاستقصائية في البلد، وهي التخصص الصحافي الذي يكشف في العادة الملفات والممارسات الفاسدة. فضلاً عن ذلك هناك قوانين استبدادية من عهد النظام البعثي السابق يتم تعقب الصحافيين عبرها وتقيد حرية التعبير. ولا ينبغي أن يُنسى هنا تهديد الصحافيين القليلين الذين يتجرأون في هذه الظروف الصعبة على كشف ملفات فساد من جانب الفاعلين الفاسدين الذين يتضررون من ذلك.

لسوء الحظ، ليس ثمة بوادر في المستقبل العراقي المنظور تشير إلى أن الفساد في طريقه الى التراجع او مواجهة ردع قضائي أو سياسي فاعل.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى