شؤون إسرائيلية

عصمت منصور يكتب – نفتالي بينيت ووقائع تحوله إلى “التهديد الوحيد لنتنياهو في ظل الحالة القائمة”!

عصمت منصور  *- 26/10/2020

رمال السياسة الإسرائيلية المتحركة تحفل بالكثير من المفاجآت والإتيان بنتائج تقلب كل التوقعات، لدرجة أنها قادرة في لحظة على انتشال ساسة قضوا ردحا من الزمن في الصحراء السياسية لتضعهم على رأس الهرم، وفي نفس الوقت إهالة التراب على آخرين كان يخيّل للمتابع أن حضورهم أبدي.

أصبح نفتالي بينيت الذي مكث قبل عام ونصف العام فقط (في نيسان 2019) ليالي طويلة في مقر لجنة الانتخابات، في محاولة يائسة منه لجمع عدة أصوات تؤهله لتجاوز نسبة الحسم، والدخول إلى الكنيست بقائمته التي قادها مع شريكته السياسية أييلت شاكيد، تحت اسم “اليمين الجديد”، والذي حصل على خمسة مقاعد في الانتخابات الأخيرة، واضطر إلى التنازل عن رئاسة القائمة بسبب فشله في الحصول على عدد كاف من الأصوات، أصبح اليوم الاسم الأهم في بورصة مرشحي خلافة وربما الإطاحة ببنيامين نتنياهو، وهو ما يذكر بالمفارقة العجيبة التي حدثت مع أريئيل شارون بعد قرار منعه من تولي وزارة الدفاع بسبب مسؤوليته عن مجازر صبرا وشاتيلا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، والتي عبرت عنها مقولة الصحافي المقرب من شارون وكاتم أسراره أوري دان والتي تحولت إلى ما يشبه النبوءة بأن “من لا يريد شارون في وزارة الدفاع، سيقبل به رئيسا للحكومة”.

بات نفتالي بينيت بمقاعده الخمسة في المعارضة المبعثرة، وغير المتجانسة في الكنيست الإسرائيلي، يهدد حكم نتنياهو ويشكل الأمل الصاعد لليمين الذي سيحرره من معادلة أن سقوط نتنياهو المتخبط في أزمة كورونا، والغارق في تهم الفساد، وإضعاف مناعة إسرائيل الداخلية، سيعني سقوط حكم اليمين.

عين على القمة

إن تتبع سيرة نفتالي بينيت السياسية والعسكرية، تكشف إلى أي حد تصلح لأن تكون مادة جيدة لتفسير المسار الصاعد الذي نشهده لنجم في الحلبة السياسية، فهو الذي لم يبلغ العقد الخامس من العمر بعد (مواليد 1972) يمتلك سجلا حافلا بالمؤهلات والصفات الشخصية والقيادية تدفعه إلى قمة الهرم في مجتمع بات التنافس فيه ينحصر بين اليمين واليمين المتطرف، مع تلاش شبه كلي لليسار. تتقاطع سيرة بينيت الذاتية والعسكرية في محطات كثيرة مع بنيامين نتنياهو (أطلق على ابنه البكر اسم يوني لشدة إعجابه بشقيق نتنياهو الذي خدم في نفس الوحدة، وقتل في عملية عينتيبه الفدائية في أوغندا في العام 1976 وهو يعتبره مثله الأعلى ونقيض نتنياهو)، فكلاهما من أصول أشكنازية غربية، وهما من خريجي المدرسة الأميركية حيث أصول عائلتهما ونشأتهما، كما أنهما أديا خدمتهما العسكرية في وحدة النخبة الأشهر في جيش الاحتلال “سييرت متكال” (سرية هيئة الأركان)، والتي انتقل منها بينيت الى وحدة “ماجلان” التي تعد وحدة الكوماندوس المتخصصة في إبادة أهداف العدو النوعية في عمق أراضيه، وهو سجل عسكري يضفي سحرا خاصا على شخصيته في مجتمع لا يزال يقدس الجنرالات.

بعد تخرجه من الجيش أسس شركة هايتك، وسجل نجاحا كبيرا في مجال الأعمال، وهو ما أضفى على البعد العسكري لشخصيته بعدا له علاقة بالابتكار والنجاح المهني، لينتقل بعدها إلى تولّي إدارة “مجلس المستوطنات” وتأسيس جمعية هدفها تعزيز النشاط الصهيوني اليميني ليظهر الجانب العقائدي في تكوينه ومسيرته التي بدأها طالبا في المدارس الدينية. شارك نفتالي بينيت في حملة “السور الواقي” العسكرية التي اجتاح خلالها جيش الاحتلال المدن الفلسطينية في العام 2003، حيث خدم في مدينة طولكرم، كما أنه شارك في حرب لبنان الثانية العام 2006 والتي شكلت نقطة التحول الأهم في سيرته السياسية، بسبب شعوره بمرارة الهزيمة وعدم القدرة على التأثير، وعدم الأخذ بالمقترحات التي تقدم بها لقادة الجيش، والتي رأى أنها قد تغير من مسار الحرب، لكونه خارج دائرة، فكانت الحافز الأكبر لديه للدخول في الحياة السياسية والتأثير من الداخل.

ليس صدفة أن يرتبط اسم بينيت بأييلت شاكيد، وهي التي جندته في العام 2005 للعمل إلى جانبها في مكتب رئيس المعارضة في ذلك الوقت بنيامين نتنياهو، لتبدأ قصة شراكة سياسية بينهما، وخصومة مع رب عملها بدأت لأسباب لها علاقة بمزاج سارة نتنياهو، زوجة رئيس الحكومة، وتدخلاتها في إدارة مكتب زوجها، ليؤدي هذا إلى خروجهما، وتشكيل ثنائي أثر بشكل كبير على تغيير وجه السياسة الإسرائيلية.

قاد بينيت موجة الاحتجاجات التي خاضها جنود الاحتياط في أعقاب خيبة الأمل من نتائج حرب لبنان الثانية في العام 2006، من موقعه في مكتب نتنياهو، وساهم في شيطنة إيهود أولمرت وتصويره كمهزوم، وإضعافه سياسيا والدفع نحو تشكيل لجنة فينوغراد. صحيح أن هذه الاحتجاجات خدمت نتنياهو سياسيا (أفرد لها الصحافي بن كسبيت مساحة واسعة في السيرة التي كتبها عن نتنياهو)، وأنه أججها لأسباب واعتبارات انتخابية، إلا أن بينيت قادها من موقع الشعور بالمرارة وعدم الرضى أولا، ولخدمة سيده ثانيا، لذا وعندما وجد أن الفرصة سانحة، ترشح للانتخابات على رأس قائمة “البيت اليهودي” وحصل على 12 مقعدا برئاسته.

ودخول نفتالي بينيت إلى عالم السياسة شكل نقطة احتكاك دائمة بينه وبين نتنياهو، فقد حرص نتنياهو على التقليل من شأنه ومحاولة تهميشه، وكان آخر من استدعاه للمشاركة في الحكومة وبضغط من يائير لبيد الذي أراد حكومة بأقل تمثيل ممكن للمتدينين، وهو ما تكرر تقريبا في كل انتخابات من خلال الهجوم عليه والتشكيك بولائه لليمين، وحتى في الفترات التي اشترك فيها الرجلان في حكومة واحدة، كان نتنياهو يتعمد التقليل من شأن بينيت، ويحرص على أن لا ينسب له أي إنجاز، كما حدث عندما ولاه وزارة الدفاع (لقطع الطريق أمام أي تحالف قد يعقده بينيت مع لبيد وبيني غانتس وللحفاظ على “كتلة اليمين”) حيث حرص نتنياهو على تنفيذ اغتيال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي في غزة بهاء أبو العطا قبل ساعات من تسلم بينيت لمهامه. ورغم خلافات نتنياهو وبينيت التي ظهرت في كل المحطات السياسية التي جمعتهما معا، إلا إنه بقي إلى جانب نتنياهو، واعتبر أنه الممثل الأقوى لليمين، وأن أي خيار آخر سيؤدي إلى سقوط معسكر اليمين وفقدانه للحكم، إلى أن تخلى نتنياهو عنه واختار إبقاءه خارج ائتلافه الحكومي الحالي.

تزامن الطلاق السياسي بين بينيت ونتنياهو مع توفر كافة الشروط التي تمنح الأول الفرصة الذهبية التي دخل عالم السياسة من أجلها، بأن يكون مؤثرا وأن ينافس على التربع على رأس هرم السلطة في إسرائيل وتطبيق أجندته اليمينية الهجومية. فقد تعثرت الحكومة وغرقت في أزمة كورونا وما نتج عنها من أزمة اقتصادية دفعت بعشرات الآلاف من مصوتي الليكود إلى البطالة وفقدان مصدر رزقهم، وهو ما قاد إلى نزولهم إلى الشارع للاحتجاج على أداء الحكومة التي بالكاد تستطيع عقد جلساتها بانتظام وتتخبط في قراراتها، ما فاقم من حالة عدم الثقة في قدرتها وقدرة رئيسها على إدارة الأزمة والخروج منها بأقل الخسائر.

أدرك بينيت أن هذه هي لحظته السياسية المواتية، وأن الجمهور في إسرائيل يتطلع إلى زعيم قوي، غير متورط في قضايا فساد، يضع الاقتصاد وحل أزمة تفشي كورونا كأولوية، لذا شكل مجلسا وزاريا موازيا للحكومة، وجند خيرة العقول وحرث البلاد من شمالها إلى جنوبها، وقدم خططا وكثف من حضوره الإعلامي وهجومه على أداء الحكومة العاجز وغير المنهجي وممالأتها لقطاعات معينة مثل المتدينين لاعتبارات حزبية وسياسية. والاستطلاعات المتتالية أظهرت صحة نهج بينيت وباتت تتنبأ له بـ24 مقعدا مقابل 27 مقعد لليكود، كما جاء مثلاً في استطلاع القناة 13 بتاريخ 18 الحالي، والأخطر من ذلك أن بإمكانه تشكيل حكومة بدون نتنياهو والمتدينين والقائمة المشتركة، يقف هو على رأسها، بعد أن زادت ثقة الجمهور بقدرته على شغل موقع رئاسة الحكومة أفضل من لبيد وغانتس وفق الاستطلاع نفسه.

نقاط قوة بينيت ونقاط ضعفه

يمتلك نفتالي بينيت الكثير من نقاط القوة التي تجعله “التهديد الوحيد لنتنياهو في ظل الحالة القائمة”، كما وصفته القناة 20، وقد اجتمعت مع هذه السمات والمؤهلات لحظة سياسية مواتية انحدر فيها نتنياهو إلى أدنى مستوى في شعبيته وثقة الجمهور به، في ظل غياب منافس حقيقي من تيار يسار ويمين المركز، وبدء ظهور علامات انشقاق لدى حزب “يوجد مستقبل” الذي يترأسه يائير لبيد، مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وخروج عشرات الآلاف إلى صفوف البطالة وفقدان أعداد شبيهة من أصحاب المهن والقطاع الخاص لمصدر رزقهم، وحالة تعثر وعدم ثقة داخل الحكومة، وهي عوامل نجح بينيت في استغلالها لصالحه وقدم نفسه بصفته الشخص القادر على ملء الفراغ وسد عجز الحكومة التي لا يتوقف عن مهاجمتها.

ويبدو أن شخصية بينيت الكاريزماتية وصفاته القيادية التي أظهرها في ظرف سياسي موات ليست كافية لضمان وصوله إلى قمة الهرم والإطاحة بنتنياهو، فهو إلى جانب ذلك كله يعاني من نقاط ضعف من المشكوك فيه أن يستطيع التغلب عليها، أهمها تركيبة قائمته الانتخابية وقدرته على دمج شخصيات تمثل قطاعات أخرى من خارج إطار اليمين القومي والديني، وتحويلها إلى قائمة عامة تمثل الجمهور وليس قطاعاً محدد منه.

يعي بينيت أهمية هذا التحدي لذا بدأ يتصرف ويتحدث كممثل لتيار واسع من الجمهور وليس لحزب قطاعي، كما تعهد أن يحول حزب “يمينا” إلى حزب جماهيري وليس حزبا قطاعيا، وفي محاولة لإضفاء مصداقية على توجهه قال في حوار على موقعه على إنستجرام إنه يؤيد حقوق المثليين، كما قام بزيارة بلدات عربية ضمن جولاته الميدانية، وأسس شركة مع مبادرين في مجال الهايتك لخدمة المتدينين الحريديم بهدف دمجهم في هذا المجال. ولكن من المشكوك فيه أن ينجح بينيت في التغلب على إرث حزب المفدال التاريخي ومعضلة القائمة التي تقيده بوجود شخصيات محسوبة بشكل فاقع على اليمين الديني المتطرف مثل بتسلئيل سموتريتش وتتبنى مواقف تردع الجمهور في قضايا اجتماعية مثل حقوق المثليين والمحكمة العليا والتعليم الديني وهوية الدولة الليبرالية، وهو ما عبر عنه محرر “هآرتس” ألوف بن الذي رغم إشادته بنفتالي بينيت واعتباره المنافس الحقيقي لنتنياهو والدعوة إلى أخذه على محمل الجد، إلا إنه أكد أنه “يشكل خطرا على المساواة والسلام الداخلي والخارجي وحقوق المواطن والمحكمة العليا”، وهو موقف يتقاطع بشكل كبير مع ما عبر عنه بنغمة يأس رون خولدائي، رئيس بلدية تل أبيب وأحد الأسماء التي تقدم على أنها المرشحة لرئاسة معسكر يسار الوسط في الانتخابات، والذي لم يجد بدا من الاعتراف في مقابلة على إذاعة “ريشت بيت” بأن بينيت “هو المرشح الأقوى لخلافة نتنياهو”.

وشبهت صحيفة “هآرتس” مسار صعود بينيت بأنه أشبه “بالاقتراب من الشمس”، ووقع في “الفخ” عندما انضم للقائمة المشتركة ويائير لبيد في التصويت على حجب الثقة عن الحكومة واعتقاده أن كل شيء ممكن، مذكرة إياه بمعاناة “مرشح اليمين” والقيود التي تكبله، خاتمة بشكل شبه قاطع أن بينيت “متأثر جدا باستطلاعات الرأي المشجعة ومقالات بعض الصحافيين الصهاينة المتدينين التي لا تعكس بأمانة واقع الجمهور أو القطاع الديني الصهيوني” وأنه سيكون “مخطئا إذا كان يعتقد أنه سيفوز في الانتخابات”.

طالما أن نتنياهو لا يزال يجلس على كرسي رئاسة الحكومة، ويقدم نفسه على أنه ممثل اليمين القوي الذي حافظ له على الحكم لأطول فترة حكم يمين متواصلة في تاريخ دولة إسرائيل، وطالما أن قرار الذهاب إلى الانتخابات من عدمها لا يزال بيده، ويتحكم به وفق مصالحة، فإن طموح نفتالي بينيت الجامح الذي عبر عنه في كل محطات حياته في خدمته العسكرية وقطاع الأعمال ومن داخل الحكومة في الحقائب التي تسلمها أو من خارجها، وصعوده الافتراضي في الاستطلاعات، سيبقى محكوماً بالانتظار، وسيضطر إلى خوض حرب استنزاف مع نتنياهو في الفضاء الافتراضي، ستستهلك كل طاقته، وسيجد أن كل ما حققه “مكتوب على الثلج” عندما يقرر نتنياهو موعد وجدول أعمال الانتخابات القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى