أقلام وأراء

عصام نصار يكتب – هيمنة الخطاب الأصولي في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي

عصام نصار  – 26/10/2020

عالمنا اليوم غير عالم الامس، وهذا ينطبق تحديدا على العالم العربي وجيرانه، فقد أمسى التزاوج ما بين الخطاب القومي والديني وانتشار التخلف، إلى بروز ظواهر مخيفة لا تبشر بمستقبل سلمي وعادل وانسانوي، كما بدا لنا الامر في التسعينات.

لنبدأ باسرائيل، هذه الدولة التي بنيت على اشلاء فلسطين جاءت مستندة الى خطاب صهيوني ذو طابع قومي لا ديني بالاساس. ففكرة الدولة اليهودية صيغت من قبل مفكرين علمانيين يهود كحل لمشكلة العداء لليهود في المجتمعات الاوروبية. وقد عارضت الحركات الدينية اليهودية من اتباع الحسيديين والحريديين فكرة الدولة منذ البداية مستندة الى مفاهيم دينية تربط قيام إسرائيل او مملكة الرب بمجيء المسيح المنتظر—المشيح. وبرغم تبني بعض الحاخامات المحافظين للفكرة الصهيونية من امثال الحاخام ابراهام كوك، والذي جاء لفلسطين العثمانية وقطن يافا قبل ان يصبح حاخام القدس الاشكنازي، فقد بقيت غالبية الحركات الحريدية معادية او غير قابلة للفكرة الصهيونية. ومن نجح في النهاية في تشكيل الدولة هم الصهياينة العلمانيين من اتباع تيار العمل. لكننا اليوم امام ايديولوجية دولة يغلب عليها الفكر القومي المتطرف مستندا الى ايديولوجية دينيية بشكل عام. لا يعني هذا نهاية الصهيونية العلمانية بقدر ما لا يعني ان كل الحركات الدينية المحافظة اصبحت صهيونية. لكن ما هو واضح ان الخطاب السائد اليوم في الشارع الاسرائيلي وفي الحقل السياسي هو خطاب يستخدم الدين والحق التوراتي والقوانين اليهودية المتعلقة بمعاملة الأغيار.

هذا واضح بشكل عام لكنه اكثر وضوحا لدى المستوطنين وممثليهم فهم اليوم لم يعودوا مثل ما كانوا في الاربعينات او الخمسينات مستوطنين صهياينة علمانيين يعيشون وفق مبدأ الحركة الكيبوتسية. لا بل ان مستوطني اليوم، ومنذ السبعينات، هم عقائديين دينيا وقوميا وعدد الحريديين الصهاينة بينهم آخذ بالتزايد. طبعا كان الوضع لدرجة ما كذلك منذ بداية حركة غوش ايمونيم الاستيطانية في السبعينات، لكن الفرق الجوهري يكمن في قدرة المستوطنين اليوم على التأثير، لا بل التحكم المباشر في القرار السياسي في اسرائيل. يقال اليوم ان رؤساء المجالس الاقليمية للمستوطنيين هم اصحاب القرار الأساسيين في الحكومة مباشرة او غير مباشرة. زد على ذلك ان هناك عدد من الوزراء في حكومة نتنياهو يقطنون مستوطنات مقامة على اراضي الضفة الغربية.

ولا يقتصر الامر على اسرائيل، فالقوى السياسية والمزاج الشعبي الفلسطيني عموما يستخدم مصطلحات في حالات كثيرة تستند الى مفاهيم دينية عقائدية في تفسير الصراع مع الصهيونية. فلم تعد الرموز الوطنية عامة بل انها تتحول تدريجيا الى رموز دينية تستند الى رؤى إيديولوجية محددة. فلم يعد الشهداء كما كانوا في السبعينات يقضوا لاجل فلسطين او حق العودة او غيره، بل انهم يصوروا على انهم يقومون بواجب او فرض ديني بالاساس. ولا اقصر الحديث هنا عن واقع غزة تحت سلطة حماس حيث تقوم قوات الامن بفرض تصورات عقائدية وليست بالضرورة قومية او وطنية على سكان القطاع، بل ان منظمات منظمة التحرير ذاتها تستخدم اليوم لغة لا تختلف كثيرا عن لغة حماس. فلم تعد مفاهيم مثل العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة وتشكيل الدولة المدنية جزءا من الخطاب السياسي كما كانت بالسابق. وقد أصبحت شعارات من عيار “الاسلام هو الحل” و “خير امة انزلت للناس” وما الى ذلك، سائدة ناهيك عن الشعارات الأكثر علمانية والتي تقول اننا افضل شعب في العالم العربي من ناحية التعليم والثقافة. هذه الشعارات وان كان من الممكن انها تصلح لعلاج قضايا اجتماعية او غيرها، لا تصلح سياسيا في الحالة الفلسطينية، فالقرآن الكريم قصد الامة الاسلامية كجماعة دينية ولم يقصد شعب او امة قومية محددة. فلا امة قومية انزلت ولا اي منها خير امة. هناك امم اسست دولا قومية وساهمت عبرها في تطور موطنيها، لكن ليس اي منها صاحب حق إلهي وأفضل على غيرها من الامم الأخرى. فلسنا كفلسطييين او عرب او مسلمين خير امة وليس الصهانية شعب الله المختار. بل اننا شعب تطور عبر تاريخ بلدنا فلسطين وحقنا فيها هو نتاج كونه بلدنا ويستند الى حقوقنا كشعب بناء على مفاهيم عصرية دولية مثل حق تقرير المصير وحق المواطنة وغيرها. وصراعنا مع اسرائيل هو صراع شعب استعمر من قبل دولة توسعية وحركة صهيونية استعمارية. وحق المهاجرين اليهود في اسرائيل نابع من قوة دولتهم وقدرتها على استمرار حرماننا لحقوقنا.  كما انه قد تكون نسبة حملة الشهادات بيننا عالية، لكنها لا تعكس ذاتها على الثقافة السائدة ولا حتى على الثقافة السياسية.

وفي الناحية الأخرى نجد ان أنظمة الاستبداد العربية التي استخدمت فلسطين لقمع شعوبها او أنظمة القبيلة التي وطدت مواقعها عبر استخدام الدين كغطاء بدأ خطابها ينفلت من عقاله، بحيث أصبحت زيارة الأقصى اهم من الاعتداءات الإسرائيلية عليه او من تهويد القدس، وكذلك شيطنة الفلسطينيين مدخلها للنظام العالمي المهيمن. وليس الدعم الإيراني لقضيتنا سوى إعداد لمصيبة قادمة تتمثل بإمكانية تحول الشعب الإيراني لدعم إسرائيل بعد عقود من انعدام الديمقراطية في داخل ايران على ايدي نظام الملالي والباسيج، كما نرى التحول في السودان بعد عقود من حكم الكيزان البغيض. وليست تركيا اردوغان التي ارتأت الرد على عدم قبولها في الاتحاد الأوروبي عبر قيادتها لجزء من العالم الإسلامي عبر خطاب الكراهية الديني للآخر والامثلة عديدة على ذلك وتتكرر يوميا عبر تصريحات الرئيس التركي.

بالطبع خطورة الوضع ترتبط اساسا باليهودية الاصولية الصهيونية، والان المسيحية الصهيونية الامريكية، لكن كما هم فقد تحول خطابهم الى خطاب ديني نحن ايضا نجد تحولا في خطابنا بإتجاه الدين. لقد انتصرت الصهيونية ليس فقط عسكريا وسياسيا، لكنها أيضا انتصرت عبر صهينة خطابنا الوطني والقومي وتحويله لخطاب ديني اسوة بخطابها الذي فُرض على اليهود واستمر عقليتة غالبيتهم.  صراع يستند الى مسلمات دينية متناقضة لن ينتهي ابدا، لكن صراع ضد حركة استعمارية استنادا الى حقوق قومية ومدنية لا بد ان ينتهي ام بالحل او بالهزيمة. لكنه سينتهي بلا شك يوما ما.

صعود الاصولية ليس حكرا علينا في الشرق الاوسط، فإضافة للصعود الملحوظ في الولايات المتحدة من ناحية الاصولية المسيحية ودورها في التأثير في سياسة امريكا الخارجية والداخلية، هناك أيضا صعودا للاصولية الهندوسية القومجة المعادية للمسلمين والمتحالفة مع أسوء ما في الغرب الأمريكي من عنصرة،  ناهيك عن الاصوليات الاسلامية الصاعدة في عدد من البلدان الاسلامية. وهذا نذير شؤم بنظري فلا مستقبل لعالمنا اذ ما تخلى عن مفاهيم ترتبط بالقانون الدولي الانساني والتعددية العضوية في مجعتمات العصر الحديث.

* أكاديمي ومؤرخ فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى