أقلام وأراء

عريب الرنتاوي يكتب – هل تحظى تركيا بـ«الأفضلية» لدى الرأي العام العربي، ولماذا؟

عريب الرنتاوي – 24/10/2020

تحتل تركيا أدنى قائمة “المهددات” الإقليمية والدولية في استطلاعات الرأي العام العربي، فيما تحظى سياستها الخارجية بأكبر قدرٍ من التأييد من قبل الجمهور المستهدف بهذه الاستطلاعات، مع أن تركيا تنخرط في “جملة” من النزاعات المسلحة التي تدور فوق الأرض العربية، مباشرة أو عبر الوكلاء، وهي أخذت منذ العام 2012 تحديدا، باعتماد “أدوات خشنة” في سياستها الخارجية، بعد أن ارتكزت إلى “الأدوات الناعمة” في مرحلة صعود حزب العدالة والتنمية (2002 ـ 2012)، ويحظى زعيمها رجب طيب أردوغان بمكانة متقدمة في العديد من الدول العربية، تفوق في بعض الأحيان، المكانة التي يحتلها قادة هذه الدول لدى شعوبهم.

هذه المفارقة، أعاد تأكيدها “المؤشر العربي” الذي رصد، مؤخرا، اتجاهات الرأي العام في ثلاث عشرة دولة عربية، ففي الوقت الذي تصدرت فيه إسرائيل قائمة “مهددات أمن المنطقة واستقرارها” خلال الفترة من 2016 إلى 2020، وبتأييدٍ من حوالي 90 بالمئة من المُستطلعةِ آراؤهم، جاءت الولايات المتحدة ثانية، بتأييد زاد على 82 بالمئة، وحلّت إيران ثالثة عن الفترة ذاتها، وبتأييد 69 بالمئة من الجمهور… تركيا احتلت المرتبة الأخيرة في قائمة المهددة، سبقتها روسيا وفرنسا والصين، وبنسبة تأييد لا تتخطى حاجز الـ 36 بالمئة فقط.

في المقابل، حلّت السياسة الخارجية التركية، في المرتبة الأولى عند تقييم الرأي العام العربي لسياسات مجموعة من الدول المؤثرة في الإقليم، وبنسبة (58 بالمئة) ترى أنها سياسة إيجابية جدا أو إيجابية، وحلت إيران أخيرا في القائمة (25 بالمئة)، والمفارقة أن ثمة ارتياحا لدى غالبية العرب المستطلعة آراؤهم، لسياسة الصين الخارجية (55 بالمئة) تليها ألمانيا (52 بالمئة)، ففرنسا (46 بالمئة)، ثم روسيا (40 بالمئة)، أما الولايات المتحدة فقد احتلت ذيل القائمة (35 بالمئة).

كان يمكن لهذه الأرقام أن تكون مفهومة تماما في العشرية الأولى لحكم العدالة والتنمية في تركيا، حين اعتمدت سياستها الخارجية “عمقا استراتيجيا” جديدا، يعطي الأولوية للشرق والجنوب، وليس للغرب (الاتحاد الأوروبي و”الناتو”) حصريا، وبشّرت بنظرية “صفر مشاكل”، وقدمت نفسها بوصفها وسيطا في النزاعات المفتوحة في الإقليم، لا طرفا فيها، فيما السياسة الداخلية التركية، كانت تشهد على ولادة “معجزة اقتصادية”، و”سلام بين الدين والدولة“، و”مصالحة بين الإسلام والعلمانية”، و”تعايش بين الدين والديمقراطية”… انفتاح شديد على مواطني المنطقة وشعوبها (إلغاء شرط الفيزا لجميع مواطني الدول العربية للدخول إلى تركيا)، ترويج سياحي ترافق من طوفان من “الدراما التركية” التي احتلت الشاشات العربية جميعها، ليتحول أبطالها إلى نجوم لامعة في السماوات العربية.

كل هذا بات من ماضي السياستين الخارجية والداخلية التركيتين، خلال أقل من عقد من الزمان.

في السياسة الخارجية، تقترن “المغامرة” و”افتعال المشاكل” أكثر ما تقترن بسياسات أنقرة في السنوات الأخيرة… جبهات مفتوحة من القوقاز الجنوبي إلى شرق المتوسط مرورا بالمشرق العربي (العراق وسورية)، وصولا إلى القرن الأفريقي والخليج العربي… الاعتماد على “القوة العسكرية” وسياسة “نشر القواعد والأساطيل الحربية”، دعم ميليشيات محلية وتحويلها إلى جيوش شبه نظامية، كما تفعل إيران في “مجالها الحيوي”، خلق جيوش من “المرتزقة” تقف على أهبة الاستعداد للقتال على أي جبهة تختارها لهم القيادة التركية… دعم واحتضان جماعات موسومة بالإرهاب، وتوظيفها في إطار سياساتها التوسعية، دع عنك ركام المعلومات عن التسهيلات التركية التي منحت لـ”داعش” والاتجار معها بكل صنوف المسروقات السورية والعراقية، من النفط إلى الآثار… نظرية “صفر مشاكل” ستتحول إلى “صفر أصدقاء”، فـ”ليس لدى السلطان من يكاتبه”، اليوم، سوى أمير قطر ورئيس الصومال ومرشد الإخوان المسلمين والأمناء العامين لجماعاتها في بلدانها المختلفة.

في السياسة الداخلية، ستتحول تركيا إلى أكبر سجن للصحافيين، وستتحول “المحاولة الانقلابية الفاشلة في العام 2016″، إلى ذريعة لتصفية الحساب مع الخصوم، وبكل غلظة، ودون مراعاة لسيادة القانون وحقوق الإنسان، وستنتقل تركيا إلى “حكم الفرد” تحت مظلة التحول من النظام البرلماني إلىالنظام الرئاسي مطلق الصلاحيات، وستشهد البلاد حالة استقطاب مجتمعي ـ هوياتي مركبة، وستأخذ المعجزة الاقتصادية الواعدة، شكل “انتفاخة اقتصادية” مهددة بالتحول إلى نقيضها مع توالي انهيارات العملة الوطنية، وسترتفع معدلات البطالة ويتباطأ النمو قبل أن تُطل “جائحة كورونا” برأسها الكريه.

كل ذلك لم يحدث تغييرا جوهريا في نظرة الرأي العام العربي لتركيا وزعيمها، وظلت “التجربة التي أكلت أبناءها” تحظى بتأييده وتعاطفه، على الرغم من الانسحابات والانشقاقات المتتالية في صفوف الحزب الحاكم، والتي ألقت بعدد كبير من “آبائه المؤسسين” خارج صفوفه، ليظل الزعيم و”صهره” وبعض المقربين من دوائر صنع القرار، في صدارة المشهد، دون حسيب أو رقيب.

ما الذي يدفع غالبية المواطنين العرب لـ”التعلق” بالتجربة التركية، وإبداء كل هذا التقدير والاحترام لزعيمها ورمزها: رجب طيب أردوغان، سؤال “سهل” يطرق الأذهان، لكن الإجابة عنه تبدو صعبة إلى حد كبير، وفي ظني أن ثمة جملة من العوامل التي تضافرت لإنتاج هذه الظاهرة، سنتوقف عند خمسة منها:

أولا؛ “فراغ الزعامة” في العالم العربي، إذ ليس من بين القادة العرب الحاكمين، اليوم، زعيم واحد، يحظى بالكاريزما القيادية داخل حدوده السياسية، فما بالك حين نتحدث عن “كاريزما عابرة للحدود”، وزعامة تتخطى “الإطار الوطني” إلى “الفضاء القومي” الأبعد والأوسع… في المقابل، هناك “قائد شعبوي”، لا يعرف أن يطلق المواقف والتصريحات إلا في حضرة الحشود والجماهير الغفيرة في الساحات والميادين، يعرف كيف يخاطب جمهوره بلغته، ولا تمنعه “اعتبارات الأمن والسلامة الشخصية” من فعل ذلك، أو حتى من زيارة الساحات المشتعلة في الإقليم، وإيفاد كبار مسؤوليه لهذه الغاية… هذا لا يحدث في العالم العربي، حيث لغة التواصل تكاد تكون مقطوعة بين الحكام والمحكومين، واعتبارات الأمن، تمنع هؤلاء القادة من الخروج من أقفاصهم الذهبية، هذا إن كان لديهم ما يقولونه لشعوبهم.

ثانيا؛ “فراغ الزعامة” متولد أساسا عن مأزق آخر، يتجسد في فشل المشروع القومي العربي، وعجز العرب عن حل مشكلاتهم وأزماتهم، والالتحاق بركب العصر، واحتضار “الدولة الوطنية”، دولة ما بعد الاستقلالات الوطنية، تنمويا وديمقراطيا ومدنيا، والفشل في حل القضية الفلسطينية، ونجاح إسرائيل في اختراق جدران المقاطعة و”الثوابت” العربية، والإخفاق في وقف الاستباحات الإقليمية للسيادات والحقوق والمصالح العربية (إيران وهلالها الشيعي، تركيا وقوسها العثماني، أثيوبيا ومياه النيل)… في المقابل، تشق “العثمانية الجديدة” طريقها في المنطقة، وتطرح نفسها “معادلا موضوعيا” لإيران و”هلالها”، وهي تسعى لملء فراغ الدول الكبرى الناجم عن “السياسة الانكفائية” لواشنطن، وتوظف ضعف السياستين الداخلية والخارجية السعوديتين وارتباكاتهما، لمنافسة المملكة على زعامة العالم الإسلامي بعامة، بما فيها أذربيجان الشيعية، والسنّي على وجه الخصوص.

ثالثا؛ “فراغ الزعامة” عززته أيضا، العلاقة “الاستتباعية” التي تقيمها معظم إن لم نقل جميع الدول العربية، مع المراكز الدولية والإقليمية، في المقابل، تبدو القيادة التركية قادرة على قول “نعم” أو “لا” لكل المراكز الدولية الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، ومن باريس إلى بروكسل… تركيا قالت، “لا” للحرب الأميركية على العراق في العام 2003، ورفضت بخلاف الدول العربية منح واشنطن والتحالف الدولي تسهيلات من على أراضيها وأجوائها، وهي تقول، “لا” باستمرار في مواجهة سياسات إسرائيل، حتى وإن لم تستتبعها بخطوات عملية تتعدى استعراض “مافي مرمرة” على شواطئ غزة، وتركيا رفضت الرضوخ للضغوط الأميركية في موضوع “إس 400” الروسي، وهي تتعامل بندية مع أوروبا وبفوقية مع اليونان”، ولا تخضع لحسابات “الشريك الروسي”، بل وتشتبك معها على ثلاث جبهات: سورية، ليبيا والقوقاز الجنوبي… مثل هذا النوع من القيادة القادرة على اتخاذ قرارات مستقلة، بصرف النظر عن الموقف من هذه القرارات، وقول “لا” أو “نعم” وفق ما تقتضيه المصلحة أو الحسابات، لم يعد موجودا في العالم منذ زمن طويل، ويبدو أن الرأي العام العربي، بات توّاقا لرؤية قادة من هذا النوع.

رابعا؛ البعد المذهبي، وهو عامل أصيل في تشكيل اتجاهات الرأي العام العربي، ومنذ أن قدمت تركيا نفسها بوصفها “الناطق بلسان الإسلام السنّي”، الأكثر فاعلية، والأكثر حضورا في ملفات المنطقة وأزماتها، أبدت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، تعلقها بهذه السياسة ورموزها، لا سيما وأن “الدول السنيّة” العربية، أبدت ضعفا معطوفا على فشل وتخبط، في إدارة معظم ملفات سياستها الخارجية، والمرجح أن كثيرين من العرب، يرون في تركيا بديلا أو معادلا لنفوذ إيران المهمين، حتى وإن كانوا غير متأكدين من فاعلية الموقف التركي في نصرة قضاياهم الشائكة، وفي القلب منها: فلسطين.

خامسا؛ الأثر المستمر الذي أحدثته “الأدوات الناعمة” لتركيا حيال شعوب هذه المنطقة (إجراءات الدخول والإقامة والسياحة الميسرة)، أثر الدراما التركية في خلق حالة من التعلق بالإرث المشترك، للعرب والأتراك في ميادين شتى، من الثقافة والموسيقى والفنون، إلى نمط العمار الإسلامي و”فنون الطبخ” و”الأنماط والعلاقات الاجتماعية”، كل ذلك يجعل قطاعات من الرأي العام “أكثر تسامحا” مع ما يمكن أن تعتبره “تجاوزات” في السياستين الداخلية والخارجية التركيتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى