أقلام وأراء

عريب الرنتاوي: في وداع عام صعب واستقبال آخر

عريب الرنتاوي 2022-12-31: في وداع عام صعب واستقبال آخر

هي المقالة الأخيرة في هذه السنة التي تلفظ أنفاسها، تحفزنا لجولة أفق في مروحة الأزمات الإقليمية المفتوحة التي رافقتنا خلالها، في مسعى لاستشراف مصائرها ومآلاتها… مَنْ منها سيجد طريقه للحل أو الاحتواء، ومَنْ منها سيرافقنا طيلة عامنا المقبل، وربما يترحل لسنوات أخرى قادمة، وهل ثمة في الأفق ما يشي بإمكانية اندلاع أزمات جديدة، فوق تلك المتراكمة تحت سماء الإقليم وفوق ترابه؟

ونحن إذ نجري جردة حساب مكثفة لواقع الإقليم من حولنا، لا نسعى لمزاحمة جيوش العرّافين والعرّافات، الذين ستنتعش مواسمهم وتتكاثر إطلالاتهم على الشاشات الفضية، مع قرب انتهاء العام، وإطلالة العام الجديد، وإنما نرغب في تحسس مواطئ أقدامنا، و”تقدير البلاء قبل وقوعه”، سيما وأننا كلما أوغلنا في التفاؤل بمقدم عام جديد، كلما أمعنا في الترحم على أعوام سبقته، فلا قعر ولا قرار لحالة الانهيار التي تعيشها المنطقة، وهيهات لأهلها وساكنيها أن يروا ضوءاً في نهاية نفقها الطويل.

ونبدأ بالأزمة الأطول والأقدم، التي طوت قرنها الثاني منذ سنوات عدة، قضية فلسطين وصراع أهلها في سبيل الحرية والاستقلال، إذ سيطل عليها عام جديد بحكومة إسرائيلية جديدة، هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، بإجماع المراقبين الإسرائيليين قبل الفلسطينيين والعرب، عناوين برنامجها الائتلافي ضم أوسع مساحات ممكنة من الضفة الغربية، وتفعيل العمل بعقوبة الإعدام ضد النشطاء الفلسطينيين، وتكثيف أسرلة القدس ومقدساتها، والانتقال بتقسيم المسجد الأقصى من الزمان إلى المكان…سنة صعبة على الفلسطينيين كما تجمع التقديرات، سنة انسداد محكم في الأفق السياسي، سنة المواجهات الساخنة التي تنذر بتطاير شراراتها شرقاً للمس بأعمق مصالح الأردن في أمنه ودوره واستقراره.

سنة جديدة قد تشهد اندلاع انتفاضة ثالثة، لا نعرف أي شكل ستأخذ، وأي مدى ستصل، لكن “المكتوب يُقرأ من عنوانه”، والعنوان تشف حروفه عن “مقاومة مسلحة” في أغلب الظن، تفضي إلى زيادة تآكل مكانة السلطة ودورها، وربما تسريع دخولها “مرحلة ما بعد عباس”، في ظل استمرار حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي، فما بعد “إعلان الجزائر”، لا يختلف عمّا سبقه، كما تشير لذلك ورقتا حماس وفتح المقدمتان إلى القيادة الجزائرية، وبناء على طلبها، لمتابعة تنفيذ بنود الإعلان التسعة، وهما الورقتان اللتان كرستا الفجوة بين الفصيلين، بدل أن تجسرانها.

سنة المراوحة في سورية بانتظار ظهور خواتيم للأزمة الأوكرانية، إن كان لهذه الأزمة من خواتيم يمكن أن تنجلي مع انجلاء السنة الجديدة…مراوحة على وقع الانتخابات التركية التي ستكون حاسمة لجهة تقرير استراتيجية أنقرة الجديدة في سورية وحيالها، ومستقبل المسألة الكردية في هذا الركن من المربع الإقليمي (التركي-السوري، العراقي، الإيراني)، سنة تفاقم الخانقة الاقتصادية التي قد تفتح الباب أمام “ثورة شعبية ثانية”، بدأت إرهاصاتها في السويداء، ودافعها الخبز قبل الكرامة…سنة “عودة الروح” للإرهاب المدجج بالسلاح والمخدرات، فالتقارير عن “داعش” وأخواته، في سورية والعراق، تبعث على القلق، وتشي بأن الإرهاب خسر معركة أو معارك بالأحرى، بيد أنه لم يخسر الحرب، ولم يرفع الراية البيضاء بعد.

سنة إضافية من الصراع في العراق وعليه، وإذا كانت السنة التي نودّع، قد شهدت “هجوماً إيرانياً” مضاداً على نتائج انتخابات 2021، وتثبيت حكومة وائتلاف أكثر قرباً من طهران، فإن التقارير التي تتوارد من بغداد، تتحدث عن زحف حلفاء إيران إلى مواقع السلطة الحساسة، من أمنية وعسكرية، وتثبيت مكانة الحشد الشعبي، في مفاصل الدولة، تحت ستار كثيف من الشعارات المؤيدة للانفتاح على الجوار العربي والإقليمي والدولي، وتحت وابل من القصف المركز لمواطن الفساد والفاسدين في الدولة والمؤسسات، وفي ظل “غيبة الصدر” وتياره العريض، الفائز في الانتخابات، فهل ستطول “غيبته”، أم أن الصدر الشاب، يُعدّ أمراً جللاً للعراق والعراقيين؟

ويودّع إقليم كردستان سنته باحتدام الصراع بين قطبيه، “الوطني” و”الديمقراطي”، وسط تزايد التسريبات عن نيّة “السليمانية” الانفصال عن أربيل، واجتماعات مكثفة لقادة الكرد في مركزي الإقليم لتدارس تقسيم السلطة والثروة بين العائلات الحاكمة، وتنسيق الرؤى والمواقف من بغداد والجوارين التركي والإيراني … خلافات دفعت بمراقبين لاستحضار فصول سوداء من تجربة انقسام تعود لستين عاماً خلت، بين الأخوة الكرد الأعداء.

وتأبى مسقط، اللاعب الهادئ في الأزمة اليمنية، أن تسمح للسنة الجديدة طي آخر أيامها، قبل أن يُتِمَّ “مكتبها السلطاني” زيارة منتظرة لصنعاء، لنزع فتيل انفجار وشيك، وسبر غور التهديدات الحوثية بالعودة إلى لغة السلاح والمسيّرات والصواريخ … صنعاء لا تريد للتهدئة أن تتحول إلى حالة “لا حرب ولا سلم”، وخصومها لا يستشعرون أن التهدئة تستحق رفع الحصار عن مطار وميناء ودفع الرواتب لمقاتلي الحوثي من جيش ولجان وموظفين، فيما شروط الحل السياسي لم تنضج بعد، والرهان على ضيق الأطراف بخيار العودة للقتال، لا يكفي وحده لضمان الهدوء وصمت المدافع…اليمن على مفترق مع بداية السنة الجديدة، فالهدنة تحتضر وبديلها ليس حالة “لا حرب ولا سلام”، والوسطاء مطالبون بإمعان التفكير من خارج الصندوق، وإلا ذهبت جهودهم أدراج الرياح.

لبنان يستقبل عامه الجديد بلا رئيس للجمهورية وبحكومة تصريف أعمال، حتى الآن لا يبدو الأمر مفاجئاً، فقد اعتاد اللبنانيون “الفراغ” وجربوه في مرات سابقة، لكنه يأتي هذه المرة بطعم الانهيار المالي والاقتصادي والمعاشي المر، فالليرة اللبنانية تلامس ضفاف الخمسين ألفاً مقابل الدولار، وترسيم الحدود البحرية لا يحمل سوى أمل بـ”ازدهار مؤجل”، تعكّر صفوه الاعتداءات “مجهولة النسب” على “اليونيفيل”، وبافتراض أحسن السيناريوهات لهذا البلد الصغير، فإن “وقف الانهيار” هو غاية المنى والطموح.

سنة سيئة بكل المقاييس على اقتصادات المنطقة، غير النفطية/الخليجية بالطبع، انهيارات متسارعة وغير مسبوقة لليرتين السورية واللبنانية، وسقوط حر لليرة التركية والتومان الإيراني والجنيه المصري، دع عنك الأزمات المالية والنقدية التي تضرب الريال اليمني والدينار التونسي والجنيه السوداني.

وبرغم ثبات الدينار الأردني في وجه الأعاصير، إلا أن الأردن يغادر السنة الحالية، على وقع واحدة من أخطر أزماته الداخلية، المتأسسة على الرفع المتكرر لأسعار المشتقات النفطية بكل تداعياتها، وتآكل القدرة الشرائية للمواطن الأردني، والأهم والأخطر، تآكل جدران الثقة بين الدولة ومواطنيها، فتتحول الأزمة في غضون ساعات من مطلبية إلى سياسية، ومن محلية إلى وطنية، وفجأة ومن دون سابق إنذار، تسيل دماء أردنية في الجنوب، وهو ما لم يحصل طيلة عشرية الربيع العربي بطولها وعرضها.

ما شهده الأردن في مختتم هذا العام من تحركات احتجاجية مرشح للتكرار أردنياً، وفي غير ساحة عربية كذلك (تونس، مصر، المغرب، سورية وغيرها)، وفرص اندلاع موجات جديدة من ثورات الربيع العربي وانتفاضاته كما حذرنا في مقالات سابقة، تبدو اليوم أعلى من أي وقت مضى، وثمة ساحات عربية تحت المجهر هذه الأيام، فيما السؤال عن أحوالها لا يبدأ بـ”هل” وإنما بـ”متى” سيقع المحظور.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى