أقلام وأراء

عريب الرنتاوي: عن «التراجيديا الصدرية»، «سلاح الشارع»، وحرب المرجعيات والمليشيات

عريب الرنتاوي 2022-09-06

مع صدور نتائج انتخابات تشرين الأول 2021 النيابية في العراق، بدا أن «التيار الصدري» قد حسم معركة الأوزان والحجوم مع القوى الشيعية المنافسة، بحصوله على الكتلة الأكبر في البرلمان (73 مقعداً)، متفوقاً عليها مجتمعةً، وكان ذلك الفوز البائن، أول نجاح كبير يسجل للتيار وزعيمه، بعد سلسلة من الضربات والتقلبات التي واجهها في السنوات الفائتة.

أما النجاح الثاني، فتمثل في تَمكّن مقتدى الصدر من نسج عرى «ائتلاف وطني» مع الكتلة السنّية الأكبر، «تقدم»، بزعامة محمد الحلبوسي، والكتلة الكردية الأكبر، «البارتي»، بزعامة مسعود بارزاني، فصار شعار «حكومة أغلبية وطنية» – الذي طرحه الصدر بديلاً عن حكومات المحاصصة المتدثرةِ برداء «حكومات التوافق والوحدة الوطنية» – أمراً قابلاً للتحقيق، بل وقاب قوسين أو أدنى.

لم يُسلّم خصوم الصدر – الذين سينضوون لاحقاً تحت مسمى «الإطار التنسيقي»، وجميعهم من المحسوبين على إيران، والأقرب إليها – بالهزيمة والخسارة، سيما أن شبح «حكومة الأغلبية الوطنية» كان قد أطل برأسه بقوة، وبدا أنهم سيُترَكون على مقاعد المعارضة، في ظل مخاوف من «أجندات خفية»، ستضع أذرعهم وشبكاتهم الأمنية والعسكرية والمالية، في قلب دائرة الاستهداف. بدا أن «معركة كسر عظم»، هي ما ينتظر القطبين، وأن نذر «حرب أهلية، شيعية – شيعية» قد أخذت تلوح في الأفق.

شكك الخاسرون ابتداءً، بالانتخابات وبنتائجها، وطالبوا بإعادة إجرائها، أو أقله، إعادة فرز جميع أصواتها، وتوجهوا إلى القضاء لكسب معركة الطعون. لكن المسار القضائي والاعتراض السلمي، لم يكن الطريق الأوحد الذي سلكه هؤلاء، فقد اعتمد أكثرهم تشدداً و»صقرية»، لغة التهديد والوعيد، ولوّح بأكثر السيناريوهات سوءاً وتدميراً، وقد رفع قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق، رايات «الويل والثبور وعظائم الأمور»، في حينه، مثلما عاد وفعل في أزمة الأسابيع الفائتة.

لم يُفلح المسار القضائي في تغيير نتائج الانتخابات، خمسة مقاعد فقط من أصل 329 مقعداً جرت إزاحتها من كيان لكيان ومن حزب لآخر، ولم يرضخ الفائزون ولا الهيئة ولا مؤسسات الدولة عموماً، لحملة التهديد والوعيد، فصار لزاماً على الخاسرين، البحث عن «تكتيكات» أخرى، لسلب الفائزين فوزهم، وإعادة عقارب الساعة إلى ما كانت عليه، قبل انتخابات تشرين الأول.

وجد الخاسرون في الانتخابات، من خصوم التيار الصدري في التجربة اللبنانية، ما يمكّنهم من شن هجوم مضاد جديد، لقد اهتدوا إلى «الثلث المعطل» بوصفه طوق النجاة للخروج من ذيول واستحقاقات التبدل الناشئ في توازنات القوى داخل البرلمان، وقد استثمروا الخلافات الداخلية بين السليمانية وأربيل، فنجحوا في جذب الاتحاد الوطني إلى خندقهم، وكذا الحال بالنسبة لكيانات أقل شأناً من المكون السنّي ومكونات أخرى، فكان لهم ما أرادوا، ونجحوا في تعطيل البرلمان ومنعه من انتخاب رئيس للجمهورية، واستتباعاً اختيار رئيس للوزراء وتشكيل حكومة جديدة، فكان الشلل الممتد حتى يومنا الحاضر.

لم تكن إيران بعيدة عن المشهد، بل كانت حاضرة في كل ثناياه وتفاصيله. ضغطت من جهة على مقتدى الصدر للجنوح لخيار الائتلاف والوحدة مع خصومه، وصيانة قواعد اللعبة التي حكمت العراق منذ العام 2005، وعملت من جهة ثانية، على توحيد صفوف خصومه، وضبط إيقاعهم، حتى لا يقع المحظور، وتندلع حرب شيعية – شيعية، تجهز على وجودها الآخذ في التزعزع في العراق. لكن أزمة ما بعد انتخابات تشرين الأول العراقية، ستُظهر حجم الخسارة التي مُنيت بها طهران باغتيال «مايسترو» السياسة العراقية، الجنرال قاسم سليماني، الذي لم يملأ فراغه أحدٌ من بعده.

وإذ طال الشلل واستطال الاستعصاء، سيقترف مقتدى الصدر خطأه الأكبر، بالطلب إلى كتلته البرلمانية، تقديم استقالتها من البرلمان، ظنّاً منه – على ما أظن – بأن ذلك سيملي على خصومه الرضوخ، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة. لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل حدث نقيضه تماماً، فقد سارع «القوم» إلى قبول استقالة النواب الصدريين، واستبدالهم بآخرين، غالبيتهم من المحسوبين على خصوم التيار، فانقلبت الأقلية أكثرية، وخرج الصدريّون من ملعب البرلمان، ومن اللعبة السياسية أساساً، وسيشرع المتربصون بالصدر، يتصدّرهم نوري المالكي، بشن «صولة فرسان» ثانية، تستهدف اقتلاعه من مؤسسات الدولة، بعد أن استهدفت «صولة الفرسان» الأولى (2008)، اقتلاعه من حواضنه الشعبية القوية.

شجّعت هذه التطورات المالكي على التفكير بخوض المنافسة لولاية جديدة، لكن بعضاً من عقلاء «الإطار التنسيقي» اعتبروا الأمر بمثابة إعلان حرب على الصدريين، وتوطئة لمسلسل من المعارك والمواجهات الدامية، لا ينتهي، إلى أن استقر الأمر على استخراج محمد شيّاع السوداني، من قبعة «ساحر دولة القانون»، وعرضه مرشحاً لرئاسة الحكومة. في هذه الأثناء، كانت التسريبات المقصودة وغير المقصودة، تتحدث عن «ميل كفة الميزان» لرئاسة العراق لصالح السليمانية بعد أن كانت محسومة لصالح أربيل، وأخذ التحرك في الأوساط السنيّة، يتداول فرضية إعادة انتخاب رئيسٍ لمجلس النواب، عقاباً للحلبوسي على تحالفه مع الصدر، وقبوله بفكرة حكومة الأغلبية الوطنية.

لم يتبقَ للصدر سوى الرهان على ورقته الأقوى والأخيرة: الشارع. حرّض أنصاره على الاعتصام أمام البرلمان، فاقتحموه، وحين رفض القضاء دعواه لحل البرلمان – لعدم الاختصاص – قارف خطأه الثاني حين أذن لأنصاره بالاعتصام أمام القضاء وتعطيل عمله، فأخذ المشهد يرتد على الصدر والصدريين، وتحولت المنطقة الخضراء إلى ساحة مواجهة دامية، سيسقط معها ثلاثون قتيلاً ومئات الجرحى، وسيرد الإطار التنسيقي على «شارع الصدر» بشارع آخر.

عند هذه اللحظة الأخطر في أزمة العلاقات الشيعية البيْنية، ستوجه طهران طعنة نجلاء في ظهر الصدر، وستوعز لمواطنها محمد كاظم الحائري، الذي يحمل رتبة «آية الله العظمى»، ويحظى بموقع مرجعي لمقتدى الصدر، بوصفه تلميذاً لعمه الراحل آية الله محمد باقر الصدر، بالاستقالة (ولا أدري ما الذي تعنيه الاستقالة، وأي وظيفة يستقيل منها)، وتقديم مرافعة خطيرة للغاية، تجرد الصدر من مرجعيته الصدرية (أبيه وعمه) وتشكك في أهليته واستيفائه للشروط المشترطة، بل وتطالب مقلدي الإمام باتّباع وتقليد مرشد الثورة، آية الله خامنئي.

أطبقت الدائرة حول الصدر، وبدا أنه خسر فوزه المستحق في الانتخابات، وخرج من البرلمان ليحل محله خصومه الألداء، وبدت له ثمة حدود لاستخدام ورقة الشارع، وهي عنصر تفوقه الرئيس على خصومه، وأيقن أن المضي في هذا الطريق، سيضعه في صدام «كسر عظم»، لا مع أتباع إيران وحدهم، بل ومع إيران بمرجعياتها وأدواتها مباشرة، سيما بعد رسالة الحائري وتهديدات الخزعلي، ودخول فالح الفياض المنتشي بمقتل خمسة «دواعش» في نينوى على الخط، مهدداً بتدخل الحشد الشعبي هذه المرة، وليس العصائب وحدها، ضد من تسوّل له نفسه تعطيل الدستور والمؤسسات وضرب «العملية السياسية»، في إشارة لا تخفى دلالاتها على أحد.

خسر الصدر هذه الجولة، بانتظار حكم المحكمة الاتحادية بشأن حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، وينقسم «الإطار التنسيقي» حول كيفية التعامل مع «الصدر الجريح»، الذي لن تداوي جراحاته عبارات الثناء والإشادة، بعد قراره سحب أنصاره من المنطقة الخضراء تحت طائلة التبرؤ منهم. بعضهم، يحسب حسابات المستقبل، فالنار تحت الرماد، والصدر ليس رقماً سهلاً في المعادلة العراقية، بالذات على ملعبها الشعبي، يتصدّرهم هادي العامري ويؤيده بهذه الدرجة أو تلك، حيدر العبادي وعمار الحكيم. وبعضهم الآخر، يعجز عن تجاوز حساباته الثأرية (الخزعلي الذي كان ناشطاً صدرياً ذات يوم)، أو التخلي عن أحلامه في السلطة والثورة: المالكي على رأس «دولة القانون».

ليبقى السؤال الأهم، حول كيف ستتصرف إيران حيال نزاع معقد ومركب كهذا، وكيف ستداوي هذا «الجرح في الكف»، وكيف سيتأثر قرارها الأخير بنتائج مفاوضات فيينا وعلاقاتها مع واشنطن، أو بموجة الانفتاح العربي على طهران. في ظني أن طهران ستحاول استنقاذ الموقف، وترميم الجسور المهدمة بين الكيانات الشيعية، وقد تساعدها خسارة الصدر لهذه الجولة على النجاح حيث أخفقت في مرات سابقة، فالصدر، صاحب نظرية «لا شرقية ولا غربية»، وإن كان يوصف بأنه رمز مدرسة «التشيّع العربي»، إلا أن صلاته الإيرانية لم تكن يوماً خافية على أحد، وقنواته مع طهران – التي تبدو معطّلة اليوم – قد تصبح سالكة في الاتجاهين، بقليل من الذكاء والحكمة والحنكة المتبادلة. لكن، مع ذلك، يمكن انتظار مفاجأة أخرى، في عراق المفاجآت الثقيلة والتقلبات التي تقطع الأنفاس.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى