أقلام وأراء

عبد المجيد سويلم يكتب – محاولة لمناقشة أطروحة سريّ نسيبة

عبد المجيد سويلم – 17/10/2020

سأبدأ القول، إن لديّ ملاحظات إيجابية كثيرة على أُطروحات الدكتور سريّ نسيبة، إن كان لجهة الصراحة والوضوح والجرأة، أو كان لجهة المضمون وجدّية الأفكار التي تضمنها المقال.

وإذا جاز لي أن أُلخّص مقال الدكتور سريّ نسيبة، مع أن كل إيجاز أو تلخيص ينطوي على صعوبة إن لم نقل “مجازفة”، فإنني أُوجز بالتالي:

يرى الدكتور نسيبة أن الواقع القائم، اليوم، لم يعد يسمح لنا، لا بالتفاوض، بسبب عدم وجود مشاريع لهذا التفاوض، إلاّ على قاعدة ما نرفضه ولا نقبل به، ولا يمكن، ولا نفترض أن تقبل به أي قيادات فلسطينية، إذا بقيت هذه القيادات تعمل في إطار المشروعية الوطنية.. ولا بالمقاومة كشكل محدد وخاص، (مسلح أو عنيف)، لأن الأضرار التي يمكن أن تلحق بنا جرّاء هذا الشكل من المقاومة ستكون أكبر من الأضرار التي يمكن أن تلحق بإسرائيل.

وعليه، يرى الدكتور سريّ أن الصمود هو الاستراتيجية الفلسطينية، على قاعدة التمسك بالرواية والهوية والحقوق أينما تواجدنا، وبحيث ان نتابع نضالنا بقدر ما نستطيع، وبقدر ما هو ممكن، وبأعلى درجة ممكنة من التأقلم والتكيّف والنفاذ من بين شقوق الفرص متى توفرت، إلى أن تتبلور رؤى واستراتيجيات جديدة في ظروف جديدة.

هذا هو الجوهري في مقال وأطروحات نسيبة، وهو إيجاز ليس لكل شيء، وإنما للأهم والأعمق فقط.

استراتيجية الصمود هي استراتيجية على أعلى درجات الأهمية والأولوية، وهي في إطار وحدة الموقف الوطني وتماسك أدواته السياسية والكفاحية تشكل قاعدة ارتكاز وأساسا لكل حركة تحرر وطني، ولكل كفاح وطني مثابر، وهي قاعدة ارتكاز وأساس لا يمكن، ولا يجوز، ولا يُعقل التخلي عنها، أو تجنبها أو تجاهلها في الحالة الفلسطينية تحديداً وبالذات.

من هذه الزاوية أجد نفسي، وأظنّ أن الغالبية الساحقة من الكادر الوطني الفلسطيني يجد نفسه متفقاً ومتوافقاً على أهميتها، وعلى دورها المحوري في الحفاظ على الحقوق، وفي الدفاع عنها، وفي تطوير الذات الوطنية نحو تحقيقها.

لكن السؤال هنا: هل جاءت هذه الاستراتيجية في ضوء فشل المفاوضات، وفي ضوء فشل مشروع “المقاومة”، أم أن هذه الاستراتيجية هي استراتيجية أساسية بغض النظر عن الفشل الذي آلت إليه الأمور؟

أو دعونا نسأل السؤال التالي: هل لو أن ما هو مطروح، أو ما يمكن أن يكون مطروحاً في الأفق المرئي هو قابل للتفاوض فهل كنّا في هذه الحالة سنذهب إلى هذا التفاوض دون استراتيجية صمود ووحدة الأداة الوطنية؟

الجواب طبعاً بالنفي، لأن الصمود ووحدة الأداة الوطنية هي قاعدة أساس وارتكاز في كل الأحوال، ما يعني أنها (أي استراتيجية الصمود) ليست استراتيجية مكتملة أو متكاملة، بدليل أنها مطلوبة دائماً وأبداً، وليس باعتبارها خطة اعتراضية على حالة الفشل التي وصلت لها الأمور في الساحة الوطنية.

فإذا جاز لنا ـ والحقيقة أنه يجوز لنا ـ أن نسمي الصمود باستراتيجية وطنية فهي فقط أولية أو ابتدائية، غير مكتملة، وغير متكاملة لمواجهة الواقع القائم.

هذا أولاً، أما ثانياً، فالسؤال هو: هل تصوغ حركة التحرر الوطني رؤيتها لما يطرح عليها من مشاريع (سواء أكانت مقبولة أو مرفوضة أو في منزلة بين منزلتين)، أو بما تملكه من إمكانيات وقدرات على ممارسة هذا الشكل أو ذاك من أشكال الكفاح الوطني..؟ أم أنها مطالبة كحركة تحرر وطني بتحديد رؤاها هي، كما تراها هي، وكما تتحدد بمصالحها هي آخذة بطبيعة الحال في حسبانها معطيات الواقع ومفرزاته وحقائقه ووقائعه؟!

في الجواب عن هذا السؤال، أرى أن من واجب حركة التحرر الوطني أن تملك رؤاها واستراتيجياتها النابعة من مصالح شعبها بغض النظر عما هو مطروح، وبغض النظر عما يمكن أن يكون مطروحاً في المستقبل، وبغض النظر، أيضاً، عن الإمكانيات المتوفرة في لحظة تاريخية معينة، وذلك لأن ما يطرح يمكن أن يتغير ويتطور، ولأن الإمكانيات غير المتاحة في مرحلة ما يمكن أن تتاح في مراحل أخرى لاحقة، أو تتلاشى في مراحل معينة. أقصد أنه لا يوجد سبب يمنع حركة التحرر الوطني من طرح استراتيجيتها للحل إذا كان هذا الحل متعذّراً أو متعثّراً في ظل ظروف تاريخية معينة، ولا يوجد ما يمنعها من تبني استراتيجية الصمود بالمطلق.

أما إذا تحوّلت استراتيجية الصمود إلى الاستراتيجية “الوحيدة” الموجودة على ارض الواقع وفي منتصف الميدان فهذا يعني أن تتحول هذه الاستراتيجية إلى شكل من أشكال “الهدف السياسي”، الذي ستحدد معالمه في كل مرحلة من مراحل النضال الوطني بالتوازن القائم على الأرض؟!

الرؤى والأهداف الوطنية في هيئة برنامج وطني ممكن وقابل للتحقيق في مدى زمني معين، وعند درجة أو أخرى من تطور النضال الوطني تقتضي وتتطلب وتشترط استراتيجية الصمود الوطني، والتكيف والتأقلم، والتمسك بالحقوق والهوية والرواية، ولا تتناقض معها إن لم نقل تعزز معها، وتقويها وتعمل على إنجازها.

أقصد من مصطلح الرؤى والأهداف لا يوازي أو يساوي أو يكافئ ما يمكن التفاوض أو عدم التفاوض عليه، ولا أن أشكال النضال التي نلجأ إليها في المراحل المختلفة تساوي أو توازي تلك الرؤى والأهداف، ولكني أقصد تحديداً أن عدم تحديد الرؤى والأهداف، وتركها دون ملامح أو محددات سياسية واجتماعية وثقافية ملموسة يمكن أن يسهل على إسرائيل فرص الانقضاض والإجهاز على الحقوق الوطنية.

الصعوبات التي تعترض “حل الدولتين”، و”حل الدولة الواحدة”، و”حل الثنائية القومية”، أو أي تصورات أخرى حول التعايش والاقتسام لفلسطين التاريخية أو الانتدابية من خلال قرار التقسيم ليست سبباً للانكفاء السياسي عن تحديد الرؤى والأهداف.

بل على العكس فإن هذه الصعوبات هي سبب إضافي للبحث عن هذه الأهداف وتحديدها، بإعادة الحوار الوطني حولها، وإعادة صياغتها وفق النتائج الملموسة التي توصلنا إليها في مسارنا الوطني الكفاحي الطويل، وهي سبب جوهري لكي تكون استراتيجية الصمود التي دعا إليها نسيبة استراتيجية فعالة وناجعة وقادرة على تطوير الحالة الوطنية على طريق إنجاز الأهداف والحقوق الوطنية.

ليس من شك أننا نعيش مرحلة صعبة ناجمة عن تغيرات هائلة نتجت عن سوء تقديرات سياسية، وعن أداء قاصر، وعن حالة انقسام مدمرة، وعن صعود اليمين الأميركي إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة ليستكمل مع اليمين العنصري المتطرف في إسرائيل حلقات كبرى من حلقات “التصفية” لقضيتنا الوطنية، وليس هناك من شك أن الانحدارات في الواقع العربي قد فاقت كل توقع وكل حدود، ولكن الأمور ليس لها طابع التخليد أو التأبيد، والأزمات لدى الذين يتربصون بأهدافنا وحقوقنا ليست عابرة وليست بسيطة ولا مؤقتة.

نحن لدينا أزمة الصعود، وهم لديهم أزمة الانحدار، وبهذا المعنى فإننا سنعاني كثيراً قبل أن نصل إلى حقوقنا وأهدافنا، أما هم فإنهم لن يعانوا إلاّ للفترة الفاصلة بين اليوم وسقوطهم.

أردت أن أقول بالنهاية، إنني من موقع تقديري واحترامي للكثير من الأفكار التي وردت في مقال الدكتور نسيبة، إلا أنني أختلف معه حول تحويل استراتيجية الصمود إلى ملاذ سياسي بديل عن تحديد الرؤى والأهداف، وإلى انعكاس لحالة الانسداد السياسي، واليأس من الواقع الوطني والإقليمي والدولي المحيط.

والمهم أن مقال نسيبة يفتح الكثير من مسارات الحوار المطلوبة حول استراتيجيات المواجهة القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى