أقلام وأراء

عبد المجيد سويلم يكتب فلسطين والتباس الأوهام والأحلام

عبد المجيد سويلم 5-7-2021م

لو كنتُ كاتباً أدبياً بالمعنى الضيّق والمحدد للكلمة، لما تردّدت في رصد حالتنا، وتتبّع مجريات اللحظة السياسية، علّني أتمكن من توصيف التيه الفلسطيني الجديد، والنكبة الجديدة التي ستحل علينا عما قريب إذا لم تحدث معجزة..!
ما هذا الذي نراه، وكيف وصلنا إلى هنا بهذه السرعة الجنونية؟
من أين لنا كل هذه القدرة على ارتكاب الأخطاء والخطايا، ومن أين أتينا بكل هذه الطاقة الهدّامة، وبهذه السرعة الخاطفة، وكيف “تيسّر” لنا ذلك؟
بعض المشاهد التي ما زلنا نراها، وما زالت أمامنا، ونحن كلنا نرقبها يومياً، ونتابع تواليها ويتواصل “زخمها” المعيب، لغة وسلوكاً نرثي لحالنا، وننعى حالتنا كأننا أمام مشاهد من أفلام الخيال العبثي أو كأننا شهّاد ومشاهدون لمسرح اللامعقول، في أشد ألوانه سواداً واسوداداً، وبما لا يشي سوى بالعتمة والظلام.
هل نحن ما زلنا نحن؟ هل كنا ثم أصبحنا؟
هل نحن من أدمى الاحتلال في الشيخ جرّاح، وهل ما زلنا نحن من نجرّعه سمّ الكأس في بيتا؟
هل نحن من انتفض في اللد والناصرة وفي كل شارع وزقاق من الناقورة إلى رفح؟
هل نحن أنفسنا من التحم بالقدس وبالأقصى وبسلوان وأضرب “الجمعة العظيمة”، واشتبك مع أكثر من مائتي نقطة تماس مع قوات الاحتلال في يوم واحد؟
وهل نحن، وما زلنا نحن الذين أمطروا إسرائيل بآلاف الصواريخ، ومن تحملوا أطنان القنابل التي ألقتها طائرات إسرائيل على رؤوسنا وبيوتنا؟
أيكون الجواب يا ترى بنعم؟
نعم نحن من نحن، أم أن الجواب هو: لا لسنا نحن من نحن؟!
هل يوجد التباس أكثر وأكبر من هذا الالتباس؟!
لماذا أتانا فجأة كل هذا الخراب، ومن أين تسرب إلى دواخلنا، وكيف لم ننتبه له وكيف تمكن من مباغتتنا؟
هل باغتنا حقاً، وهل تباغتنا حقاً، أم أننا نحن من باغت أنفسنا، ونحن من تباغت من أنفسنا؟
هل انتصرنا وانهزمنا في الوقت نفسه؟
أكنّا بحاجة إلى هذا “النصر” كي نتجرّع مرارة هزيمتنا؟
بتاريخ 27/5/2021 وتحت عنوان “معادلة النصر والهزيمة في الواقع الراهن” كنت قد كتبتُ نصاً، أقتبس: [ماذا لو أدى هذا “النصر” إلى تبديد وحدة الشعب والقضية؟، وماذا لو أدى هذا النصر بالذات إلى تكريس وتعميق الانقسام؟، بأي معنى يمكننا في مثل هذه الحالة الحديث عن نصرٍ من أي نوع كان، وبأي معنى نكون قد انتصرنا، وما هو دليلنا على هذا النصر؟].
العودة إلى هذه الفقرة بالذات ليست ـ كما أقصد من إيرادها ـ سوى محاولة مني للإجابة عن سؤال فيما إذا كنّا انتصرنا حقاً أم هزمنا حقاً.
هنا جرى أكبر التباس سياسي مرّ على الحالة الوطنية منذ عقود طويلة، وهنا بالذات، وانطلاقاً من هذا الالتباس ندخل إلى مرحلة من التيه السياسي، الذي ـ أكرر ـ بأنه يؤسس لأكبر نكبة سياسية بعد النكبة الكبرى والأصلية، وسنجد من سينبري ويتبرع بالقول إن ثمة مبالغات كبيرة في هذه الاستنتاجات، وإن الاحباط الذي نجم عن التباس الحالة الوطنية لا يجوز أن يؤدي بنا إلى “رؤية” هذا القدر من اليأس، ومن الخشية على المصير الوطني الفلسطيني كلّه!
لماذا يصل كاتب سياسي مثلي إلى مثل هذه الاستنتاجات، ولماذا هذه الدرجة من “اليقينية” حيالها؟ وكيف نفسر ازدياد أعداد الكتّاب الذين باتوا يخشون هذا المصير، بل كيف نشرح حالة الإحباط التي نشهدها، ونلحظها بوضوح تام ونرى انعكاساتها في وسائل التواصل الاجتماعي جنباً إلى جنب مع “أبطال وأشاوس” المبتهجين بقرب خراب الحالة الوطنية؟
لماذا كل هذا الخوف على المصير الوطني الآن وبالذات؟
وبالعودة إلى الأزمات التي مثلت تهديداً للمصير وقبله للوجود الوطني يبرز الانشقاق الذي تعرضت له حركة “فتح” بعد خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من بيروت، والذي مثل فعلاً أكبر تهديد تتعرض له الثورة المعاصرة في حينه.
كان الانشقاق كبيراً، وشاركت وساهمت وانخرطت فيه قيادات مهمة ووازنة من الحركة، وكان الانشقاق مدعوماً بالكامل ومنسقاً بالكامل من النظام السوري، وقد جرى في حينه “تفريخ” فصائل جديدة للقيام بهذه “المهمة” كرأس حربة لذلك الانشقاق وعلى عجلٍ لافت، وتم زجّ جزء من قوات جيش التحرير الفلسطيني التابعة للنظام السوري، وتم التحضير لانقلاب شامل على الحالة الوطنية.
فشل الانشقاق لأسباب كثيرة، لكن من أهمها على الإطلاق كان صلابة موقف القيادة الفلسطينية بقيادة الزعيم الخالد عرفات، وانحياز كامل الفصائل الوطنية الديمقراطية للقيادة الشرعية، بما في ذلك “الشعبية” و”الديمقراطية” وجبهة التحرير الفلسطينية والحزب الشيوعي وجبهة التحرير العربية، وانحازت الأغلبية الساحقة من القيادات الوطنية المستقلة للقيادة الشرعية.
كامل البيئة الدولية المؤيدة للمنظمة ولـ “فتح” والغالبية الساحقة من البيئة الإقليمية أيدت صمود القيادة الشرعية وتم إجهاض الانشقاق وانتهوا وتحولوا إلى أدوات وأوراقٍ عند النظام، وفشلت المحاولة فشلاً مدويّاً.
كل عناصر الصمود الوطني وإفشال الانشقاق توفرت، وكل مقومات معاودة الهجوم الوطني الكفاحي أنتجت وحدة الحالة الوطنية في دورة المجلس الوطني في الجزائر، وتعزز الوجود الوطني، وتصلب عود المصير الوطني، واندلعت الانتفاضة الوطنية الكبرى كما نعرف، وكما نعي أهميتها الاستراتيجية اللاحقة.
بعجالةٍ وتكثيفٍ شديدين، أين يكمن الفرق، وأين مكمن الأخطار في اللحظة السياسية الراهنة؟
أولاً، كان الانشقاق آنذاك (فتح الانتفاضة) سياسياً وتنظيمياً لكنه لم يكن جغرافياً لانعدام توفر العامل الجغرافي في حينه.
ثانياً، كان الانشقاق آنذاك وبالرغم من مركزية دور ومكانة حركة “فتح” إلّا أنه بقي من حيث الجوهر فتحاوياً خالصاً، بصرف النظر عن التفريخات التي تمت داخل بعض التنظيمات الصغيرة.
ثالثاً، لم يكن هناك في ذلك الانشقاق أي بعد أيديولوجي مغاير بالكامل للوطنية الفلسطينية، إن لم نقل إن غطاء الانشقاق كان هو “التشبّث” بالوطنية نفسها، والادعاء بالدفاع عنها والاحتماء بها، وهو ما نفتقد له في واقع الانقسام اليوم.
رابعاً، لم يكن للانشقاق آنذاك أي طابع اجتماعي وثقافي بارز، وكان “الصراع” على الهوية الكفاحية الوطنية ـ إذا جاز التعبير ـ أما اليوم فنحن أمام بعد اجتماعي وثقافي صارخ، وأمام صراع على الهوية الوطنية وليس فقط على الهوية الكفاحية.
خامساً، انشقاق “فتح” في ذلك الوقت، والذي كان بصورة، أو أخرى محاولة لشق وحدة الصف الوطني والحركة الوطنية لم يكن على تاريخ ورواية المسار التحرري للشعب، في حين أن الجزء الأهم من انقساميي اليوم يكنون العداء، ويضمرون الضغينة لهذا المسار التحرري، وهم يعملون ليل نهار لمحوه من الذاكرة الوطنية برمّتها.
سادساً، انقساميو اليوم يتنازعون الصراع على سلطة مادية لها مصالح مقابل سلطة مقابلة مادية لها مصالح أخرى، ما يعني أن الانقسام والصراع قد تحول من حقل الصراع السياسي على البرنامج السياسي ـ على سبيل المثال ـ إلى حقل الصراع على السلطة وعلى امتيازاتها ومصالحها.
سابعاً، لم يكن العامل الإسرائيلي جزءاً من معادلة الصراع في حين أن هذا العامل حاضر على الأرض، وقادر على التأثير المباشر والكبير على كلا السلطتين، وهو بإمكانه أن يتلاعب بالمصير الوطني من زاوية احتياجاتهما ـ أي السلطتين ـ ويمكنه أن يحدد إلى درجة كبيرة مصير هذا الصراع ونتائجه.
ثامناً، القوى المؤيدة للشرعية ليست صديقة أو حليفة مباشرة لها بالضرورة، في حين أن القوى المؤيدة للانقساميين هي صديقة وحليفة لهم، وتلعب الدور المباشر في هذا الصراع وهي جزء لا يتجزأ من لعبة التأثير والتغيير “المطلوب”.
تاسعاً، كانت “فتح” منظمة سياسية تحررية رائدة، متمدنة، ورأس حربة لحركة تحرر قومي شامل، بل وطليعة سياسية في إطار حركات التحرر الوطني العالمية، أما اليوم فإن حركة “فتح” تعاني من انشقاقات وانشطارات داخلية عميقة، وهي مثقلة بأعباء السلطة، وهرمت هياكلها، ولم يتم تجديد روحها وشبابها بما يكفي، والقبلية السياسية تحولت إلى واقع وطني شامل يطال الكل الوطني دون استثناء هذا هو سرّ القطبية الثنائية القائمة.
عاشراً وأخيراً، كانت المنظمة منظمة، وكان دورها يصل إلى عنان السماء، أما اليوم فكلنا يعرف واقع المنظمة وأثره على الحالة الوطنية.
لهذا كله نحن على أبواب أخطار وجودية تلتبس فيها أوهامنا بأحلامنا، وقد ندخل قريباً في تيه سياسي أقرب إلى النكبة. إلّا إذا تمكن شعبنا ـ وأنا أثق به ثقة عمياء ـ من اجتراح معجزة جديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى