أقلام وأراء

عبد المجيد سويلم يكتب – تظاهرة أم الفحم : أملٌ يتجدّد

عبد المجيد سويلم – 8/3/2021

لم تطل كثيراً فرحة اليمين الإسرائيلي، وخصوصاً «أبو يائير» بما توهموا من حالة يأس واستكانة وطنية، بعد انشقاق «الإسلامية الجنوبية» عن الجسد الوطني في الداخل الفلسطيني.

من قلب أم الفحم جاء الرد هادراً، مدوياً بعشرات الآلاف، وفي مشهد وطني يزخر بمعاني الانتماء والعزة والكرامة، ومفعم بالعزيمة والإباء.

لا توجد ذرّة مبالغة أو بلاغة في وصف التظاهرة التي تداعت لها كل القوى الوطنية والمؤسسات والفعاليات والشخصيات تلبية لنداء الحراك الشبابي في المدينة الصامدة، وبتعبئة نشطة من لجنة المتابعة» وكافة منظومات المجتمع المدني للجماهير الفلسطينية قاطبة ودون اي استثناءات.

كأن فلسطينيي الداخل في ردهم على أوهام اليمين بالنيل من وحدة الموقف الوطني، وتماسكه وصلابته واستعداده للمنازلة مع مخططات التفتيت قد عرفوا كيف يوجعون أعداءهم، وكيف يسددون لهم الضربات المؤلمة، وفي مقتل حقيقي.

أكثر من مئة قتيل وضحية في العام 2020، وأكثر من ستة عشر قتيلاً منذ بداية هذا العام فقط، ولم تتحرك الشرطة الإسرائيلية، بل إنها في الواقع «تنأى» بنفسها عن التحرك، هذا إن لم نقل إنها بهذا النأي تعمل على تأجيج وتشجيع حالة الإجرام، وزيادة ضرباتها في قلب المجتمع الفلسطيني في الداخل.

الشباب الفحماوي وعلى مدى ثماني جولات متتالية نجح نجاحاً باهراً وبريادية وطليعية يحسد كل شعبنا الفلسطيني عليها، في الارتقاء وعياً واسلوباً وتنظيماً إلى أن وصل إلى مستويات غير مسبوقة في التعبئة الوطنية الشاملة، للرد على الشرطة الاسرائيلية، وعلى مخططات السلطة الصهيونية المتطرفة.

ويكفي بهذا الصدد الإشارة إلى أن تظاهرة أم الفحم رفعت اعلام فلسطين، وفقط فلسطين، وهي بهذا تعكس ليس فقط وحدة الموقف والهدف، وانما ـ وهذا هو الأهم ـ عكست اعادة التأكيد، والذي ما بعده تأكيد، ان ام الفحم شأنها في ذلك شأن كل مدن وقرى وتجمعات اهلنا هناك هم جزء لا يتجزأ، ولا يمكن أن يتجزأ أو ينفصل عن انتمائه الأبدي لفلسطين الشعب، وفلسطين الوطن، وفلسطين القضية، ولفلسطين الأهداف والحقوق.

تظاهرة أم الفحم دمرت مخططات اليمين الاسرائيلي الذي استهدف أن يفتت ابناء وبنات شعبنا، ويحولهم إلى تجمعات تستجدي لقمة الخبز، وتستجدي حماية السلطة الاسرائيلية، فإذا بعشرات الألوف يخرجون في إعلان وطني واحد وموحّد أن جماهير الداخل تعرف بالضبط من هو المتآمر وما هي المؤامرة، ومن الذي يخطط، ومن الذي ينفذ.

عرف عشرات الآلاف ماذا يرفعون من شعارات وهتافات ورايات.

المدينة الفلسطينية التي ألمحَ أكثر من مسؤول صهيوني، وأكثر من حزب سياسي، وخصوصاً عُتاة المتطرفين منهم، أن من «الأفضل» لإسرائيل التخلص منها، وتهجير أهلها، أو «ضمها» لمناطق شمال الضفة في إطار «تسوية» مستقبلية إذا ما تعذر التهجير، خرجت عن بكرةِ أبيها في سيل جماهيري جارف والتقت بالموجات البشرية التي وصلت اليها من الجليل والمثلث والنقب، ومن مدن الساحل المختلطة للتعبير عن صمودها على أرض وطن الفلسطينيين، وبقائها شوكةً في حلق الأهداف الصهيونية ومخططات الخنق والتهجير والتمييز والسياسات العنصرية التي تستهدف وجودههم وانتماءهم وحقوقهم، في حاضر اليوم وفي المستقبل بكل تأكيد.

تظاهرة أم الفحم «أفحمت» أصحاب مقولات ونظريات «المنافع المشتركة» مع اليمين العنصري، ووضعتهم في زاوية العار، وحشرتهم، وحشرت أطروحاتهم في خانة المكاره السياسية.

تظاهرة أم الفحم ليست سوى «بروفة» سياسية لتظاهرات ووقفات ومحطات آتية – لا ريب فيها – إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن غداً فبعد الغد، وذلك لأن البعض لا يريد أن يفهم مدى جذرية المخططات الصهيونية، ومدى عنصرية هذه المخططات، ومدى قوة ومتانة الإجماع الصهيوني على هذه المخططات.

تظاهرة أم الفحم إيذان مبكر، واستشعار ذكيّ ومحنّك بمستقبل الصراع على هذه الأرض، إذا لم يتم كسر حلقة هذا الإجماع، وإذا لم تتم الاطاحة في أسرع وقت ممكن بالسياسة العنصرية السافرة التي ينتهجها المشروع الصهيوني برمته، ضد شعبنا في كل مكان، ضد وجوده وتاريخه وروايته، ضد ماضيه وتراثه، ضد هويته وشخصيته وكيانه الإنساني وتاريخه الحضاري.

تظاهرة أم الفحم مفتاح أمل بأن أزمنة «الهيلمان» السياسي قد ولّت إلى الأبد، والتذاكي على شعبنا تحول إلى فعل سياسي ساذج وتافه، والعقلية الاستشراقية العنصرية التي تنظر إلى شعبنا بمنطق «الإحسان» والمشروط أيضاً ربما هي بالذات ـ أي هذه العقلية الاستشراقية هي ما تستحق الشفقة، دون أن تستحق أبداً الصفح والغفران.

صحيح أن شعبنا ولأسباب تاريخية معروفة للجميع يصنف بأنه أحد الشعوب النامية، أو الشعوب التي تعاني الكثير من مظاهر «التخلّف»، وهذا واقع لا يمكننا المكابرة كثيراً بشأنه، لكن شعبنا بمقياس الدفاع عن وطنه وقضيته، وبمقياس الإرادة والعزيمة التي يمتلكها، والكفاحية الوطنية التي يختزنها، وبمقياس تجربته التحررية الوطنية، هو بكل تأكيد أحد أهم شعوب هذه الأرض، وربما يكون من بين شعوب قليلة من حيث المكانة الحضارية والتقدم، ومن حيث الريادية الإنسانية المميزة.

تظاهرة أم الفحم هي صرخة في وجوهنا جميعاً، في الداخل، وفي الأرض المحتلة والشتات؛ أن اتحدوا وتماسكوا، وتعاضدوا إلى أن نتمكن من الانتصار والحسم في معركة البقاء أولاً على طريق الانتصار في معركة الحقوق والأهداف.

أم الفحم، تظاهرة ومدينة وتاريخاً كفاحياً وإرثاً نضالياً، هي النموذج الفلسطيني لما كنّا عليه، ولما نكون عليه، ولما يجب أن نظلّ عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى