أقلام وأراء

عبد الله السناوي: المبارزة الإستراتيجية هنا وحولنا!

عبد الله السناوي 2022-07-31

بقدر الأخطار الماثلة جراء الحرب الأوكرانية على المستقبل المصري، شأن الدول الأخرى في العالم والإقليم الذي نعيش فيه، تتبدى في الأفق السياسي فرص جدية لحلحلة بعض الأزمات المستعصية، وأخطرها أزمة سد النهضة الإثيوبي.

كانت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى القاهرة بتوقيتها ورسائلها إشارة جديدة إلى الأهمية القصوى الإضافية التي قد يكتسبها الشرق الأوسط في الصراع على مستقبل النظام الدولي.

نحن أمام مبارزة استراتيجية بين القطبين الدوليين المتنازعين الروسي والأميركي على إثبات القوة والنفوذ في أكثر مناطق العالم اشتعالاً بالنيران والأزمات، أو أيهما أكثر حضوراً وتأثيراً وتموضعاً في أزمات الإقليم وقدرة على حلحلتها.

بعد قمتَي جدة وطهران بالحضور المباشر للرئيس الأميركي جو بايدن في الأولى والحضور المباشر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الثانية بدأ ما يشبه الهرولة إلى الشرق الأوسط.

في القمة الأولى لم يحقق بايدن مكاسب استراتيجية تخوله الادعاء بأن أميركا عادت إلى سابق نفوذها، وأن كلمتها مطاعة في أنحاء الإقليم المضطرب، لا أنهت أزمة الطاقة التي تأخذ بخناق الاقتصادات الأوروبية ولا دمجت إسرائيل في المنطقة اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً بذريعة حمايتها من «الخطر الإيراني»!

ربما تكون حققت بقوة الضغوط بعض التقدم فيما سعت إليه غير أنه أقل بكثير مما توقعت.

بصورة أو أخرى بدت إسرائيل عبئاً استراتيجياً على جولة بايدن، حملته فوق طاقته وطاقة النظم العربية كلها في طلب إنشاء ما أطلق عليه «الناتو الشرق أوسطي».
في القمة الثانية، حاول بوتين أن يلملم تصدعات «تحالف الضرورة»، الذي يجمعه مع إيران وتركيا بالأزمة السورية، أراد أن يقول بقوة الصور: «أنا هنا.. حاضر ومؤثر».
لم تكن هناك نتائج كبيرة لقمة طهران باستثناء «فرملة مؤقتة» للعملية العسكرية التركية في الشمال السوري ضد التمركزات الكردية، التي تقول أنقرة إنها تمثل تهديداً لأمنها القومي.

لأسباب مختلفة تحفظت أميركا على العملية نفسها وبدت قريبة من الناحية العملية ما تبناه خصماها الروسي والإيراني لا مع حليفها التركي. كانت تلك مفارقة استدعتها المصالح المتضاربة في حلف «الناتو».

بعد أيام معدودة من قمة طهران فتحت نافذة أمل في اسطنبول لإنهاء أزمة الحبوب المتفاقمة في أرجاء مختلفة من العالم، خاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا، على خلفية وقف تصديرها من الموانئ الأوكرانية، بأثر النيران المشتعلة فيها وحولها.

بمقتضى اتفاق وقعته روسيا وأوكرانيا برعاية تركية وأممية تقرر فتح ممر آمن في البحر الأسود لتصدير الحبوب والمنتجات الزراعية والأسمدة من روسيا وأوكرانيا إلى مختلف دول العالم.

كان ذلك اختراقاً كبيراً لأزمة مستعصية، غير أنه الآن موضع تساؤلات حرجة عن قدرته على الصمود وسط النيران واحتمالات التصعيد.

بالحساب التركي، فإن ذلك الاختراق إضافة كبيرة لصورتها وأوزانها في اللعبة الدولية، أو أن تكون وسيطاً مقبولاً من الطرفين عندما يحين وقت إنهاء الحرب بتسوية سياسية غير مستبعدة.

باليقين فإن تركيا سوف تستخدم ورقة نجاحها في الوساطة بأزمة الحبوب لرفع منسوب أدوارها وأوزانها داخل حلف «الناتو»، وأنه لا يمكن تجاهل اعتبارات أمنها القومي. وبالحساب الروسي، فإنه ينزع عن صورتها مسؤولية أزمة الغذاء العالمي، ويضعها في موقف أفضل أمام الرأي العام في العالم الثالث الأكثر تضرراً. كما أنه يساعد على تحسين آخر لصورتها قبل التئام القمة الروسية الإفريقية المرتقبة خريف العام المقبل.

بالتوقيت نفسه جمدت موسكو الوكالة اليهودية على خلفية موقف تل أبيب من الحرب الأوكرانية، كان ذلك تحللاً رمزياً من العبء الإسرائيلي عند الاقتراب من قضايا وأزمات الإقليم وداعياً للتساؤل عن مصير التفاهمات الأمنية، التي سمحت بضرب المواقع السورية بالطائرات دون رد!

هكذا جاء لافروف إلى القاهرة قبل أي محطة أخرى في جولته مدركاً أهميتها الجغرافية ورمزيتها التاريخية في الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، لكي تكون رسالته واضحة وواصلة لأصحابها.

كان مستلفتاً في الكلمة، التي ألقاها في مقر الجامعة العربية رسائلها المضمرة والمعلنة: «أننا لسنا معزولين».. و«منفتحون على الحوار».. و«مستعدون لأي تسوية سياسية ممكنة للصراع في أوكرانيا».

كانت حلحلة أزمة الحبوب مدخلاً لقضايا أخرى عديدة تدخل في الاهتمام العربي كالقضية الفلسطينية والأوضاع المأزومة في ليبيا وسورية والعراق. وكان مستلفتاً بذات القدر ما سجله أمام المسؤولين المصريين: روسيا لا تمانع في تصدير مصر الغاز لأوروبا على ما تعهدت.

بإدراك دبلوماسي لأهمية الموقع المصري فهو يطلب مد خيوط التواصل مع القاهرة مدركاً بالوقت نفسه أن حجم الاحتياجات الأوروبية من الغاز لا يسمح بالاستغناء عن روسيا.

بتوقيت متزامن خفضت موسكو صادراتها من الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب «نورد ستريم 1» إلى نسبة (20%) بذريعة مصاعب تقنية، وهو ما شككت فيه ألمانيا!
مناورات الغاز والغذاء لن تتوقف قبل انتهاء الحرب، كل طرف يحاول أن يقيم الحجة على الآخر.

في جولته الإفريقية أفاض لافروف في إثبات «أن العقوبات الغربية المفروضة على بلاده تعرقل التعاون مع القارة».

في المبارزة الاستراتيجية بين القطبين الدوليين طرحت أزمة سد النهضة نفسها على جدول الأعمال الملتهب.

الجولة الإفريقية للافروف تضم إثيوبيا، ذات الأهمية الاستراتيجية في القرن الإفريقي، وقد كان الدور الروسي مؤثراً في إفلات أديس أبابا من أي مؤاخذة أممية في مجلس الأمن على ما تتخذه من إجراءات انفرادية في مشروع بناء سد النهضة دون اعتبار لمصالح دولتي المصب مصر والسودان، أو أي قواعد قانونية دولية.

الموقف السلبي نفسه اتخذته الصين.

الأطراف الدولية كلها مدعوة الآن إلى إعادة النظر في مواقفها، أو أن تكون أكثر توازناً.
المصالح وحسابات القوة، قبل القانون الدولي والاعتبارات الأخلاقية، سوف تحكم المواقف الأخيرة في أزمة سد النهضة.

لم تكن مصادفة أن تستبق الولايات المتحدة جولة لافروف بمبادرة عبر مبعوثها في القرن الإفريقي للتوصل إلى حل دبلوماسي لأزمة سد النهضة بعد قلة اكتراث أبدتها منذ صعود بايدن إلى البيت الأبيض.

في المنازعة الاستراتيجية على القوة والنفوذ لا يمكن تجاهل حجم وأهمية الموقع المصري في الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، فإذا ما نجحت في إدارة التوازن بين القطبين الدوليين وفق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية وحدها فإنها سوف تحصد اتفاقاً قانونياً ملزماً بشأن سد النهضة يضمن حقوق مواطنيها في شريان الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى