أقلام وأراء

عبد الغني سلامة يكتب عبد اللطيف عربيات، ونظرية المؤامرة

عبد الغني سلامة 5-7-2021م

النص التالي كما قاله حرفياً المرحوم عبد اللطيف عربيات (قيادي إخواني أردني سابق) في مقابلة متلفزة: “بعد أن قامت إسرائيل، وتم الاعتراف بها من قبل عدد قليل من الدول، فبحثوا الأمر، كيف يمكن أن يحصل الاعتراف الشامل والمفتوح بإسرائيل من دول العالم؟ فاتفقوا على أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بعد اعتراف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بإسرائيل، وقبل اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل لا قيمة لاعتراف الدول الأخرى، في العام 1957 وصلوا إلى هذه النتيجة، أنه لا بد من صنع جسم فلسطيني يمثل الفلسطينيين، وهو سيعترف بإسرائيل، وعام 1962 اتصل جون كينيدي بجمال عبد الناصر، وقال له: يا جمال نريد جسماً فلسطينياً يمثل الفلسطينيين نتعاون معه، وهو يعترف بإسرائيل، فكانت منظمة التحرير الفلسطينية (1964)، فحولوها من قضية إسلامية إلى عربية، وفي العام 1974 حولوها إلى قضية فلسطينية، وبعد عشرين عاماً وصلوا إلى أوسلو، وتم الاعتراف بإسرائيل، وبالتالي كل ما حصل عبارة عن مؤامرة مرتبة خطوة بخطوة”. انتهى الاقتباس.
بداية، أسجل استغرابي من هذا الطرح، وأتساءل كيف لقيادي مخضرم وذكي وعلى درجة عالية من الثقافة، أن يفكر بهذه الطريقة السطحية والساذجة! وأن يبني استنتاجات مهمة وتاريخية بهذه الخفة؟ فالرجل فاضل ويداه بيضاء، ولا خلاف على شخصه، الخلاف على منهج التفكير، المغرق في نظرية المؤامرة.
في المقابلة ينسب حديثه إلى سياسي أردني سابق “عبد الله صلاح”، وهو حديث لا يمكن إثباته؛ لأنه دون دليل مادي، ولا توجد وثائق تدعمه، هو مجرد وجهة نظر، وأحكام مرسلة، وفيه قدر من الخيال، يصعب اعتماده كمرجع لأي بحث علمي، فمثلا يقول: “فبحثوا الأمر، كيف يمكن أن يحصل الاعتراف الشامل والمفتوح بإسرائيل”.. من هم الذين بحثوا الأمر؟ وأين بحثوا؟ وما هي الوثائق التي تثبت ذلك؟ وما دليل الاتصال الهاتفي بين كينيدي وعبد الناصر؟
ومجمل الحديث ينطوي على مغالطات تاريخية ومنهجية ومنطقية، سأحاول تفنيدها؛ فمثلاً، يقول: “تم الاعتراف بإسرائيل من قبل عدد قليل من الدول”.. والحديث عن فترة الخمسينيات، حيث ركزت إسرائيل في تلك الفترة على تمتين علاقاتها بالدول الكبرى، وأهمها أميركا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي، وذلك بهدف ترسيخ شرعية وجودها وتأمين المساعدات اللازمة لقيامها، ولم تعطِ أهمية تُذكر لدول العالم الثالث.. إلا أنها تنبهت لخطأ هذا المنحى، فبدأت منذ نهاية الخمسينيات بنسج علاقات مع دول أخرى لها حضور فاعل على الساحة الدولية، ولما كانت أميركا اللاتينية بمثابة الحديقة الخلفية للبيت الأبيض، اعتبرتها إسرائيل مضمونة، وبالتالي يمكن تأجيلها بعض الوقت، بينما كانت معظم الدول الآسيوية واقعةً تحت النفوذ السوفياتي، الأمر الذي دعا إسرائيل لجعلها في المرتبة الثانية ضمن أولوياتها، بعد إفريقيا.
بمعنى أن إسرائيل لم تكن في البداية معنية باعترافات دولية، ولما أرادت ذلك، بدأت وفق مخطط مدروس، نفذته بنجاح لافت خلال عقدين، وبمساعدة أميركية، ولم تكن بأي حاجة لاعتراف الفلسطينيين، بل إنها كانت لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني، ولا بممثله، وتتعامل مع الفلسطينيين كسكان يمكن حل مشاكلهم بتحقيق بعض مطالبهم المدنية، ولم تكن تفكر بمنحهم أي حقوق وطنية أو سياسية.
يضيف الراحل عربيات: “واتفقوا على أنه لا بد من صنع جسم فلسطيني يمثل الفلسطينيين، ليعترف بإسرائيل”.. وهذا أغرب ما قيل؛ فالفلسطينيون في تلك الفترة كانوا عبارة عن جموع لاجئين، يعيشون ظروفاً بائسة، ويجري قمعهم بكل قسوة من قبل الدول المضيفة، كانوا بقايا شعب على وشك الانقراض، بلا قيادة، وبلا تمثيل سياسي، بلا كيان، يبحثون عن خلاص فردي بالسفر، أو بالتكيف مع الواقع الجديد، تتهددهم مخططات التصفية الجسدية، والاحتواء، والإذابة، والإنابة، والتوطين، وتحويلهم إلى هنود حمر، وأقليات في طريقهم نحو الاندثار، وقضيتهم سيطويها النسيان.. إذاً، من هذا العدو الغبي الذي سيحيي وجود أعدائه الذين سعى لإنهائهم، ثم يجعل لهم كياناً سياسياً، واعترافاً عالمياً؟! وما هذا العدو الذي يصنع من يضربه، ويأتي بمن يقارعه، ويجيّش ضده، ويحرض الشعوب عليه، ويهدد بنسف مشروعه؟ ألا يتناقض هذا مع المنطق وقبل ذلك يتناقض مع مجريات الأحداث آنذاك؟
يضيف عربيات: “في العام 1957 وصلوا إلى نتيجة بأن إسرائيل لن تحظَى باعتراف عالمي إلا بعد اعتراف الفلسطينيين بها، وقبل ذلك لا قيمة لاعتراف الدول الأخرى”.. لماذا انتظروا تسع سنوات قبل التوصل إلى هذه النتيجة؟ ألم يكن هذا وارداً في حسبانهم أثناء الإعداد لقيام إسرائيل؟ ولماذا انتظروا خمس سنوات أخرى ليتصل كينيدي بعبد الناصر ويطلب منه صنع جسم فلسطيني!!
نلاحظ هنا أولاً الموقف السلبي الإخواني من عبد الناصر، ومحاولات إظهاره كجاسوس أميركي، يتلقى الأوامر من البيت الأبيض! وثانياً: ظروف وملابسات تأسيس منظمة التحرير لا علاقة لها بكل هذا الهراء؛ فبالعودة إلى مؤتمرَي القمة العربية (عُقدا سنة 1964) سنعرف أن القمة الأولى (القاهرة، في كانون الثاني) طلبت من أحمد الشقيري الاتصال بالجاليات الفلسطينية وتدارس فكرة إنشاء منظمة، لتكون شبيهة بحكومة عموم فلسطين، أي مجرد يافطة دون مضمون. لكن الشقيري استثمر الفرصة، وأخذ الموضوع بجدية، وفعل ما كان يؤمن به؛ حيث أراد أن يصبح للفلسطينيين كيان سياسي يمثلّهم، ويعبر عن قضيتهم، ويمكّنهم من أخذ زمام المبادرة، لإبراز هويتهم الوطنية التي رأى أنها تواجه خطر الانسحاق والذوبان.
في مؤتمر القمة العربية الثاني (الإسكندرية، أيلول 1964)، قال الملك فيصل، وكان حينها رئيساً للمؤتمر: “إن المجلس الوطني الذي عُقد في القدس لا يمثل الفلسطينيين، وإن الشقيري تجاوز صلاحياته، والمهام التي كلفه بها المؤتمر، والتي لا تتجاوز دراسة الوسائل لإنشاء الكيان الفلسطيني وإعداد تقرير وطرح تصورات، ولم نطلب منه إنشاء هذا الكيان”. وقد رفضتْ حينها كلٌ من: الأردن، العراق، سورية، السعودية فكرة المنظمة لاعتبارات مختلفة.
وللحديث تتمة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى