أقلام وأراء

عبد الغني سلامة يكتب – تـحـريـك الـمـيـاه الـراكـدة

عبد الغني سلامة – 29/3/2021

لم يحدث سابقاً أن مرت القضية الفلسطينية بمثل هذا المستوى من الركود والجمود، فمنذ عقدين تقريباً، والقضية الفلسطينية في مؤخرة اهتمامات العالم، وقد تراجعت إلى مستويات خطيرة. في هذه المرحلة لم نشهد منجزاً سوى الانتخابات، واعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين ومنحها صفة مراقب، واستعداد المحكمة الجنائية الدولية للنظر في الجرائم الإسرائيلية، وتلك منجزات مهمة دون شك، ولكن في نفس الفترة كان الأداء الفلسطيني سلبياً: انقلاب «حماس»، والذي أدى إلى حالة انقسام مزمنة، فشلت أمامها كل محاولات المصالحة، فضلاً عن الأداء السلبي للسلطة والوطنية وحكومة «حماس» في مجال انتهاك حقوق الإنسان وقمع الحريات العامة، وفشلهما في تحقيق تنمية حقيقية، أو تقديم نموج صالح للحكم. وتراجع أداء الفصائل الوطنية، بعد أن تكلست وأصابها الوهن، وهذا كله انعكس سلبياً على الجماهير، التي بدأت تفقد حيويتها وعنفوانها.

لكن هذه السلبية، وهذا الجمود لا يمكن أن يستمرا للأبد، ولا بد من كسر هذه الحالة، ليس لأن الشعب الفلسطيني مبادر وروحه الثورية متقدة وحسب، بل لأن هذا يتناقض مع منطق الطبيعة، فالسياسة، مثل الطبيعة لا تقبل الفراغ، وأي حالة سياسية لا يمكن أن تدوم طويلاً، سيما في منطقة ملتهبة وحساسة مثل منطقتنا، خاصة مع تصاعد الإجراءات الإسرائيلية العدوانية والاستيطانية.

وقد شهدنا في الفترة السابقة العديد من المؤشرات الإيجابية الواعدة، مع أنها كانت فردية ومحلية ولم تدم طويلاً، لكنها تركت أثراً في الوعي الجمعي، وشكلت إرهاصات، لا بد وأن يُبنى عليها مستقبلاً؛ فمثلاً، قبل سنوات شهدنا ظاهرة المواجهات الفردية ضد مستوطنين وجنود وعلى الحواجز، نفدها أطفال وشبان وفتيات، بالحجارة والأدوات الشعبية البسيطة، وقد ارتقى فيها شهداء تركوا إرثاً مهماً، وحكايات بطولة ستظل خالدة في ضمير الجماهير، منهم بهاء عليان، صاحب مبادرة أطول سلسلة بشرية للقراءة حول سور القدس، والذي نفذ عملية فدائية أدت إلى استشهاده، ومهند الحلبي، وعمر أبو ليلى، وضياء تلاحمة، وأمجد السكري، ومحمد الكالوتي، ومحمد عليان، ورشا عويصي، وصالح البرغوثي، وباسل الأعرج، صاحب نظرية المثقف المشتبك، والذي ألهمت وصيته جيل الشبان.

بالنظر إلى تلك الانتفاضة المصغرة سنجد أغلبية المشاركين فيها من فئة الشباب والفتية، وهم جيل يعاني فقدان الأمل بعملية التسوية، ومن خياراتالقيادة الفلسطينية، ومن عجز النظام السياسي عن تقديم برامج وخطط وطنية، خاصة لفئة الشباب، في إطار فكري سياسي مقاوم، أو في إطار خطط تنمية وطنية تمنحهم الأمل بالمستقبل، وهذا ما يفسر روح التمرد والغضب المختزنة عند هؤلاء الشبان.

كما شهدنا حراكات جماهيرية منظمة في القدس للرد على المحاولات الإسرائيلية للتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، ومحاولات وضع بوابات إلكترونية تحد من حرية حركة المقدسيين، أدت إلى إفشال تلك المخططات.

وفي داخل الخط الأخضر شهدت المدن والبلدات الفلسطينية حراكات جماهيرية متعددة، خاصة ضد قانون القومية اليهودية، وفي مناسبات يوم الأرض وذكرى النكبة، والحراك الجماهيري ضد مخطط برافر، والحراكات الشعبية للتنديد بالسياسات الإسرائيلية المتواطئة، فيما يتعلق بتدهور الأوضاع الأمنية، وكان آخرها مسيرة أم الفحم.

في قطاع غزة شهدنا حراكات «غزة نحو التغيير»، و»تمرد على الظلم»، و»بدنا نعيش»، وفي الضفة حراك «15 آذار» لإنهاء الانقسام، والحراك المساند لإضرابات الأسرى، وضد الاعتقالات الإداريّة، وهبّات الغضب التي اجتاحت الشارع الفلسطيني في أعقاب حرق محمد أبو خضير وحرق عائلة الدوابشة، وفي أثناء الحروب العدوانية الثلاث على غزّة، والحراكات المنظمة في الخان الأحمر.

إضافة للحراكات الاحتجاجية في الضفة الغربية ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي، مثلما حدث في الاحتجاج على «الضمان الاجتماعي»، وإضراب المعلمين، وبعض التظاهرات المطلبية ضد الحكومة.

وعلى مستوى أكثر تنظيماً، شهدنا قيام مبادرات سياسية ذات طابع سياسي فكري أشبه بالحزبي. في الخارج قام مفكرون ونشطاء وقادة سياسيون من مشارب فكرية وسياسية متنوعة بتنظيم «ملتقى فلسطين»، والذي يضم شخصيات من فلسطين التاريخية وبلدان اللجوء والشتات، في محاولة لاستعادة فئات كانت أقصيت أو ابتعدت عن العمل السياسي المباشر، والسعي إلى مراجعة التجربة الوطنية بطريقة نقدية ومسؤولة، والمساهمة في صوغ رؤى وخيارات وطنية، وفي إعادة بناء الكيانية السياسية، وانتهاج خيارات كفاحية، جديدة ومغايرة، تتأسس على الواقعية والعقلانية.

لكن إعلان الانتخابات سيُحدث موجة جديدة، وربما أكبر وأهم من كل ما سبقها، فمنذ صدور مرسوم الانتخابات، بدأت الساحة الفلسطينية تشهد حراكات سياسية ساخنة، أبرزها ما تشهده أروقة «فتح» الداخلية، والتي أدت إلى ظهور «الملتقى الوطني الديمقراطي»، والذي يقوده حالياً د. ناصر القدوة. أما «حماس»، فقد نظمت انتخابات داخلية لانتخاب قيادة جديدة لمكتبها السياسي، كما ظهر الحراك من أجل الوطن والديمقراطية والعدالة (وعد)، وهو مجموعة من المستقلين يرون أن القوى السياسية القائمة غير قادرة على مواجهة التحديات، وبالتالي فهم يعملون لخلق بديل يقوم على تعزيز الفكر التقدمي والتعددي، وانخراط الشباب في العمل الوطني.

كما بدأت تتشكل قوائم انتخابية مستقلة، وقوائم شبابية، ستشكل بدائل سياسية تكسر حالة الاستقطاب الحاد بين «فتح» و»حماس»، كما بدأت تنظيمات اليسار وبعض فصائل منظمة التحرير محاولات تشكيل تكتل سياسي يضم كافة قوى اليسارية والعلمانية، وبدأت الجماهير تنخرط أكثر فأكثر في السجالات السياسية المحتدمة، وبدأت فئات واسعة من الشباب والنساء تبحث عن دور سياسي أنشط، ومشاركة فاعلة في التغيير القادم.

بعض الحراكات لا يفكر بخوض الانتخابات أساساً، ربما لعدم جهوزيته، لكن صخب الانتخابات يظل في خلفية المشهد، وصحيح أن نتائج الانتخابات لن تعطي لتلك الحراكات والقوائم المقاعد التي تطمح إليها، لكن المهم أن المياه لم تعد راكدة، وثمار تلك الحراكات ستظهر بعد حين. فالتغييرات الكبرى تحدث دائماً بناء على إرهاصات وتراكمات سابقة.

بعد الانتخابات الفلسطينية (والإسرائيلية)، ربما ينطلق قطار التسوية من جديد، خاصة أن إدارة بايدن لديها رؤية سياسية للحل، مختلفة عن طرح الإدارة السابقة، ربما تلبي الحد الأدنى، الذي يسمح للفلسطينيين بقبول الدخول في مفاوضات.

ما يعني أن المرحلة القادمة ستكون مليئة بالمستجدات والأحداث، وستغيّر شيئاً ما من هذا الواقع البائس. على الأقل تغيير في بنية وخطاب النظام السياسي الفلسطيني الحالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى