أقلام وأراء

عبد الغني سلامة يكتب انـحـراف الـبـوصـلـة

عبد الغني سلامة ٢-٦-٢٠٢١

بدأت ثورة الـ 36 هادرة واعدة، ثم بدأت تخبو، وتنكفئ، حتى تحولت إلى اقتتال داخلي، فقد دبت الخلافات بين العائلات، وبدأت حملات التشويه والتخوين والاغتيالات، ثم صارت نزاعاً بين الأحزاب التي كانت امتداداً لتلك العائلات، وسرعان ما تطورت إلى قتال بين فصائل مسلحة.
كما بدأت الانتفاضة الأولى كموجة نضالية شعبية واسعة، شملت كل الأرض المحتلة، وانخرطت فيها كافة شرائح الشعب وفئاته، وقدمت نموذجاً فريداً في الإبداع الكفاحي والمقاومة الشعبية، بتضحيات غالية، ودامت على هذا الحال قرابة السنتين، ثم بدأت تخبو، وتتراجع، وتنحرف بوصلتها عن هدفها المركزي المتمثل بالتخلص من الاحتلال إلى أهداف فرعية، حتى طغت عليها الخلافات العشائرية، التي كانت تختفي تحت يافطة الفصائل والأحزاب، وبحجة تصفية الجواسيس والمتعاونين، حتى صارت جل فعاليتها متركزة على الأهداف الثانوية خاصة في المجال الاجتماعي، ومحاولات كل فصيل فرض أجنداته وبرامجه على الجماهير.. ثم تحولت إلى حالة من الفوضى الأمنية.
كما بدأت الانتفاضة الثانية قوية، جماهيرية، سلمية، بمعنويات عالية، وبشعارات سياسية ناضجة، لكنها سرعان ما تحولت إلى الأسلوب العسكري بعمليات فدائية ضد أهداف منتقاة بعناية نفذتها كتائب شهداء الأقصى، وظلت كذلك قرابة العام، ثم تغيرت الأدوات والأساليب، وطغت عليها العمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر، وفقدت طابعها الجماهيري، واستمرت الأخطاء حتى فقدنا أصدقاءنا وحلفاءنا في الساحة الدولية، وتمكنت إسرائيل بماكينتها الإعلامية من إلصاق تهمة الإرهاب بها، ومن ثم بأي عمل مقاوم، الأمر الذي جعلنا نقدم تضحيات هائلة دون مقابل، بل بخسائر سياسية فادحة، ثم تحولت إلى حالة من فوضى السلاح والانفلات الأمني، إلى أن انتهت بالانقسام.
إزاء هذه الإخفاقات يمكن توجيه الاتهامات لأي جهة، وتحميلها كامل المسؤولية: للقيادة، للفصائل بشكل عام، أو لفصيل معين، أو للشعب، وثقافته ونهجه.. هذا ليس مهماً، على الأقل الآن، بل إنني هنا أنادي بنبذ نهج تحميل المسؤولية وإلقاء اللوم على جهة واحدة، أو إرجاع الظاهرة لسبب واحد.. فدوماً الظواهر الاجتماعية تكون معقدة ومتشابكة، بحيث تتداخل فيها الأسباب مع النتائج، ويكون لها أكثر من سبب، وأكثر من عامل..  
ما يعنيني هنا تحديداً موضوع الانحراف عن الهدف الأساسي، وتجاهل العدو المركزي، وهذا ما لاحظناه في الأمثلة الثلاثة التي قدمناها، حيث كان الرابط المشترك بينها، هو الحيد عن الخط الرئيس بحملات التشكيك والتخوين، والتفرغ للمعارك الداخلية، واختلاق أهداف فرعية.. وهذا الخطأ الذي ما زلنا نقترفه صباح مساء..  
فما يحدث منذ سنوات طويلة، في كل مرة نستعيد فيها البوصلة الوطنية ونحدد الاتجاه الصحيح بالمواجهة ضد الاحتلال ومستوطنيه، يتم إعادة حرف البوصلة باتجاه الصراع الداخلي والتشرذم والفتنة وتبادل الاتهامات والشتائم وإدعاء البطولة والمزايدات.
بعد النصر المعنوي الذي أحرزته المقاومة في غزة، وبعد المسيرات الشعبية التي انطلقت في عموم الضفة الغربية، ومئات المواجهات مع الجيش والمستوطنين، ونهوض المارد الوطني في الداخل، وحالة التضامن العربي والعالمي والتي عبرت عنها المسيرات الحاشدة في مختلف مدن العالم، بما فيها مسيرات العودة على حدود فلسطين، وانكشاف صورة إسرائيل أمام العالم كدولة تمارس الأبارتهايد، وجيشها يقتل الأطفال.. أمام حالة النهوض الوطني هذه، وما تحقق ميدانياً من وحدة وطنية بدلاً من تطوير هذه الطاقة الثورية المتفجرة، وتصعيد المقاومة الشعبية، وتعزيز الوحدة الوطنية، ووحدة الموقف السياسي، واستثمار كل ذلك لقطف نتائج سياسية لصالح فلسطين، صرنا نشهد وللأسف ما يهدد بنسف كل ما تحقق.
في المسيرات بدلاً من توحيد الهتاف ضد الاحتلال، يتم دفع البعض للهتاف لصالح طرف وشتم طرف آخر، أو لرفع صور معينة ورايات لأحزاب.
قي الإعلام، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وطوال فترة العدوان على غزة، وما بعدها بعضهم تفرغ كلياً للشتم والتخوين، وتوجيه الاتهامات للسلطة ورئيسها، ولفتح وقيادتها وحتى لأعضائها ومناصريها، مقابل حملات للتشكيك والتخوين بحق حماس.. ولم يكتب هؤلاء كلمة واحدة ضد الاحتلال!
كما أخذ رواد الفيسبوك باستخراج صور وتصريحات قديمة منسوبة لقادة يختلفون معهم، يختلقون ويزورون تصريحات لم يقولوها، أو قالوها في سياق آخر، وأخبار مزورة، وقص ولصق، وتحريف المعنى واقتطاع أجزاء، وفبركة فيديوهات، بهدف اقتناص الفرصة للتشويه.
من يفعل ذلك إما أشخاص حاقدون، يريدون تصفية حساباتهم مع الآخرين باستغلال ما يجري من أحداث، أو من المتشددين وأصحاب الرؤوس الحامية والذين يعشقون التوتير وتعكير الأجواء.
وهنا، أود التأكيد على الآتي:
ما تحقق بعد العدوان، سواء كان نصراً كبيراً، أم معنوياً، الأهم من ذلك كيف نطوره ونستثمره لصالح قضية فلسطين.
لا «حماس»، ولا «فتح»، ولا أي فصيل مهما كان عظيما يمكنه بمفرده تمثيل الشعب الفلسطيني، أو قيادة نضاله، أو تجسيد المشروع الوطني.. من يمثل الشعب الفلسطيني منظمة التحرير، بغض النظر عن موقفنا الحالي من أدائها ورضانا عن قيادتها، من عدمه.
«حماس» و»فتح» يكملان بعضهما البعض، وبقية الفصائل ليست ديكوراً، ولا مجرد إرث تاريخي، الجميع شركاء في الوطن وفي النضال وفي التضحية.. وأصلاً غالبية الشعب من خارج التنظيمات.. والانتخابات الحرة هي التي تفرز قيادة المرحلة الجديدة.
الوحدة الوطنية صمّام الأمان، وبوابة النصر، وشرط أساسي لتحقيق أي منجز سياسي، والوحدة لا تتحقق فقط بتفاهمات مكتوبة بين الفصائل، بل تتجسد على الأرض بوحدة الشعب وتعاضده، وبالتمسك بالهدف الوطني الأساس، وحين يعلو العَلَم الفلسطيني على رايات الفصائل، ويصبح الهمّ الوطني مقدماً على التعصب الحزبي.
ختاماً، حملات التخوين والاتهامات، والنبش في القضايا الداخلية، وتسجيل المواقف والنقاط والمزايدات على بعض، وتقديم التناقض الداخلي على الصراع الأساسي، والمناكفات الحزبية، كل ذلك حرف للبوصلة الوطنية، وهو حرف متعمد ومتكرر ويخدم الاحتلال فقط، وإن ظن أصحابه أنه يحقق لهم مكسباً حزبياً مؤقتاً، وينال من خصومهم إلا أنه يسرع من انهيار المنظومة الأخلاقية والوطنية لصالح مشاريع مشبوهة.
تخيلوا لو رصصنا الصفوف، وركزنا كل طاقاتنا وغضبنا باتجاه العدو فقط.
على الأقل، حتى لا نكرر إخفاقاتنا السابقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى