أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: مستقبل العالم بعد الحرب

عبد الغني سلامة 30-7-2025: مستقبل العالم بعد الحرب

من أخطر تداعيات الحرب العدوانية على غزة حالة التبلّد التي أصابتنا جميعاً؛ مع إحساسنا بالعجز وتدفق الصور والأخبار والمشاهد المروعة من غزة حصل معنا ما يشبه الاعتياد والتكيف، صار منظر القتل والأشلاء مألوفاً، وصار عادياً أن نسمع عن استشهاد 100 فلسطيني كل يوم! وعن تدمير مربعات سكنية كاملة!

يوصي أطباء النفس بتجنب مشاهدة الصور المروعة ومشاهد القتل والأشلاء حفاظاً على الصحة النفسية والعقلية.. من ناحية علمية محايدة هذا صحيح، لكننا أمام تراجيديا إنسانية غير عادية.. المشكلة أنه بسبب تكرار مشاهد القتل والتدمير في نشرات الأخبار وعلى وسائل التواصل، تراجعت مستويات الاستجابة الإنسانية وبهتت تعبيرات التعاطف والتضامن.. سابقاً، مثل هذه المشاهد المفزعة كانت كفيلة بأن تهز ضمير وكيان كل إنسان، اليوم لم يعد أحد يبالي بها، ومع كثرتها تحولت إلى جزء من حياتنا اليومية، ومع توفر مخدرات نفسية على شكل «أخبار عاجلة» حول مقتل جنود وإعطاب دبابات، ومخدرات على شكل أوهام وتمنيات بالنصر المؤزر، وخطاب شعبوي يؤكد حتمية سقوط حكومة نتنياهو.. تحولت تلك المخدرات التعويضية إلى شعور طاغٍ باللامبالاة، ومن ثم إلى تغييب الضمير.

وسائل الإعلام تستخدم تسميات ملطفة لوصف المجازر والمذابح، وتصور حملة الإبادة الممنهجة ضد المدنيين كما لو أنها حرب ضروس بين طرفين (احتلال ومقاومة)، أما بعض النشطاء فقد اغتنموا الفرصة وحولوا كل حدث مروع إلى «ترند» يتكسبون من ورائه ويجمعون المشاهدات والإعجابات من جمهور متعطش لأي خبر يشفي غليلهم.

قد نظن أن خطورة هذا التحول والاعتياد مقتصرة على الفلسطينيين، أي أهل الضفة الغربية وفلسطينيي الشتات.. وهذا غير صحيح.. لا أقلل من وطنية أحد، ولا أشكك بتعاطف أحد مع ضحايا الحرب في غزة، فما يحدث فوق طاقتنا جميعاً.. الخطورة تنسحب على العالم أجمع، على المجتمعات البشرية، وعلى المجتمع الدولي.

هل يُعقل أن حرباً عدوانية شرسة وعملية إبادة جماعية وحملة تطهير عرقي وتهجير قسري وتجويع متعمد تجري على مدار سنتين أمام مرأى ومسمع العالم، ولا أحد يفعل شيئاً حقيقياً وملموساً لإيقاف الحرب، وإدانة جرائم إسرائيل ومعاقبتها وعزلها!

هذه ليست سابقة في التاريخ، فقد شهد العالم حروباً طاحنة وصراعات أهلية ومجاعات وكوارث وظلماً وعدواناً.. كانت أخبار تلك الحروب والصراعات تتسلل إلى أذهان العالم على شكل تسريبات صحافية وأخبار مقتضبة وتقارير مختصرة وصور متفرقة هنا وهناك، ومع ذلك كان العالم يتصرف ويقول: كفى، حتى لو لفظياً وإعلامياً، كان يجري استنكار وإدانة لما يحدث.. ما يجري في غزة منذ سنتين يتم تصويره ونقله على الهواء مباشرة.. وكل العالم سمع به ورآه! وصار عادياً، ومقبولاً، ويجري تجاهله.

إنه لشيء مروع ومرعب أن يرى العالم قصف المستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة، وتدمير البنى التحتية، وهدم المنازل بشكل منهجي وإجبار السكان على النزوح من منطقة إلى أخرى عشرات المرات، وحرق خيام النازحين، وقطع الكهرباء والمياه، والتجويع والتعطيش، وقتل ستين ألف إنسان.. ثم يصبح كل ذلك منظراً مألوفاً!

تاريخياً، حدثت على مستوى العالم عشرات المجاعات، كلها كانت نتيجة جفاف أو بسبب الجراد، أو لظروف قهرية، هذه أول مرة تحدث فيها مجاعة لمليوني إنسان بشكل متعمد وبفعل بشر!

وحين يرسل بعض الدول والمؤسسات مواد تموينية وإغاثية تقوم إسرائيل والشركات الأميركية المسؤولة عن إدخال المساعدات بحصر الناس في حظائر، وبشكل مهين ومذل، وتطلق عليهم الرصاص، وقد قُتل حتى الآن ما يزيد على الألف مواطن من منتظري المساعدات.

لا تقتصر خطورة المشهد على الجانب الإنساني بكل ما فيه من قتل وتشريد وبؤس.. ثمة جانب آخر لا يقل خطورة: احتقار وتهميش محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، واحتقار الشرعية الدولية على لسان قادة إسرائيل، وعلى لسان اللوبي الصهيوني، بل على لسان الرئيس الأميركي نفسه!

الأخطر هو غياب القانون الدولي، وغياب هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومنظمات حقوق الإنسان، وصمت وتواطؤ الصحافة العالمية، وبرلمانات الدول وأحزابها.. هؤلاء من المفترض أن يكونوا ضمير العالم، وحماة السلم العالمي، والقانون الدولي.. هؤلاء بصمتهم وتواطئهم وتخاذلهم سيحولون العالم كله إلى غابة، فما يجري في غزة مجرد صورة مصغرة لما سيحدث لاحقاً في كل العالم.

بعد أن اعتاد العالم مشاهد القتل والقصف العشوائي، وتعايش مع دموية إسرائيل، وصمتَ على جرائمها، وبعد أن تبين عجز وخواء المنظمات الدولية والحقوقية والإنسانية.. ما الذي سيمنع تعميم نموذج الإجرام الإسرائيلي!؟

صحيح أن الجرائم والظلم والاستبداد والحروب والعدوان كانت وما زالت تجري في كل مكان من العالم، لكن اليوم، وبعد نموذج حرب غزة، ستكون المهمة أسهل على الطغاة والمستبدين، سيكون بوسع كل دولة قوية أن تعتدي على جارتها، وكل دكتاتور أن يبطش بشعبه، سيغدو التجويع سلاحاً مشروعاً، وتدمير مدن كاملة فوق رؤوس ساكنيها مجرد خبر عاجل.. بعد حرب غزة صارت مشاهد القتل والتهجير عادية، ولم تعد القوانين الدولية رادعة، ولا مجلس الأمن بقادر على حماية السلم في أي مكان.

كما كتبت سوسن الأبطح، في مقالتها المنشورة في «الشرق الأوسط»: على البشرية جمعاء أن تشعر بالرعب، لأن ما يحدث في غزة ليست مجرد حرب، بل هي صورة مبكرة لما سيكون عليه العالم في المستقبل القريب؛ عالم بلا قوانين، تسوده شريعة الغاب، يأكل فيه القوي الضعيف، عالم مات ضميره وفقد إنسانيته.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى