أقلام وأراء

عبد الغني سلامة: محكمة التاريخ

عبد الغني سلامة 23-7-2025: محكمة التاريخ

 

كلما سمعنا عن وفاة خائن أو دكتاتور، نقول: مصيره «مزبلة التاريخ»، وإذا كرهنا ظاهرة ما أو تحيرنا بأمرها نحيلها إلى «محكمة التاريخ» التي ستنصفنا وستقول كلمة الحق.

للأسف، لا يوجد شيء حقيقي اسمه مزبلة التاريخ، وإن وجدت مجازياً سيكون فيها عشرات الأسماء المظلومة التي لم نفهمها، وتسرعنا بالحكم عليها.

وللأسف، لا توجد في جميع كليات الحقوق تخصص اسمه «القضاء التاريخي»، ولا يوجد في أي نظام قضائي، ولا في أي هيئة محكمة في العالم قسم مختص بالمحاكمات التاريخية.. حتى لو أطلقنا صفة «محكمة تاريخية» على أي محاكمة فهذا يظل تعبيراً مجازياً، وليس موضع إجماع.

مثلاً، محاكمات نورنبيرغ، التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، قالوا: إنها وفقاً للقانون الدولي، ووُصفت بأنها «أعظم محاكمة في التاريخ»، أدانت القادة السياسيين والعسكريين للرايخ الثالث بتهمة ارتكاب الهولوكوست.. لكنها لم تحاكم قادة الحلفاء ولم تدن جرائمهم.

أيضاً «محكمة طوكيو»، التي عُقدت بعد الحرب العالمية الثانية، أدانت قادة اليابان بتهمة ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وضد السلام.. لكنها لم تحاكم ولم تدن من ألقى قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي، ولم تجرّم من قصف طوكيو ومانيلا وغيرها وتسبب بمقتل ملايين المدنيين.

محكمة صدام حسين وُصفت بأنها «محكمة القرن»، وقد اعتبرها المظلومون عادلة، فيما رأى آخرون أنها كانت تصفية حسابات سياسية، ولم تكن عادلة بسبب تدخلات القوات الأميركية والحكومة العراقية، بهدف إظهار صدام كطاغية وبالتالي تبرير غزو العراق واحتلاله.

ثمة أمثلة عديدة على محاكمات وصفت بأنها «محكمة التاريخ»، كما جرى في الكوفة قبل سنوات حين تشكلت محكمة لمقاضاة الخليفة هشام بن عبد الملك، بأثر رجعي، فعوضاً عن طرح أسئلة جدية وموضوعية كانت مجرد تحريض طائفي مشبع بخطاب الكراهية.

نحن نعزي أنفسنا في وهم «عدالة حكم التاريخ»، و»قطعية محكمة التاريخ».. التاريخ يكتبه المنتصرون، أو يكتبه مؤرخون بشر وفقاً لتوجهاتهم ومرجعياتهم، أقصد ما هو متوفر بين أيدينا من روايات تاريخية، وقد تبين إمكانية تزوير الحاضر المتشكل أمام أعيننا، فما بالك بما مضى من أحداث مرت عليها سنوات عديدة؟

حتى «محكمة العدل الدولية» عقدت جلستين فقط خلال سنتين من تعرض غزة لحملة إبادة جماعية غير مسبوقة ببشاعتها، ومنذ ذلك الوقت دخلت في سبات شتوي طويل.. كذلك المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات توقيف ضد نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وأيضاً دون أن تتمكن من تنفيذ حكمها، وها هو نتنياهو يسافر، ويُستقبَل في البيت الأبيض، من قبل رئيس يفاخر بعنصريته، ويجاهر باحتقاره للمحاكم الدولية وللقضاء الدولي والشرعية الدولية!

عشرات القادة العسكريين والزعماء السياسيين أجرموا بحق شعوبهم، وبحق الشعوب الآمنة، عاشوا حياة طويلة وهانئة وماتوا بهدوء، ولم يحاكمهم أحد، بل إن بعضهم ما زالت كتب التاريخ تمجدهم!

عشرات الأنظمة الاستبدادية والأحزاب الشمولية والجماعات المتطرفة ظهرت على مدار التاريخ، ومارست إجرامها ونثرت بذور الفتنة وجلبت الويلات لمجتمعاتها، ولم يحاكمها أحد، وما زالت موضع نقاش واختلاف عند المؤرخين والمثقفين بين مؤيد ومعارض.

كنت أتمنى وجود شيء حقيقي اسمه «محكمة التاريخ»، تتوفر فيها كافة شروط العدالة، مشكَّلة من قضاة عدول ونزيهين وجريئين.. محكمة لا تتبنى الأحكام المسبقة، ولا تؤمن بالعبارات الجاهزة والأفكار المعلبة، ولا ترفع شعارات براقة، ولا تحمل أي أيديولوجية، ولا راية حزبية، ولا ضغينة لأحد.. تفتش عن الحقيقة فقط، وتصدر أحكامها بحزم ووضوح وموضوعية، معيارها الإنسانية، وديدنها حياة وكرامة ومصالح الناس، وبوصلتها مستقبلهم، لتحاكم إسرائيل على 77 سنة من جرائمها المتواصلة، وعلى قتلها عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين، وتشريدها وتجويعها مليونَي إنسان غزاوي.  

ولتحاكم كافة زعماء العالم، ورؤساء الهيئات والمؤسسات الدولية، على صمتهم وتآمرهم وتغاضيهم عن كل جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وعدم فعل أي شيء إزاء تجويع أهل غزة، في جريمة منكرة تُمارس جهاراً نهاراً ضد المدنيين والأبرياء.

لتحاكم رؤساء أميركا على ما اقترفوه من مذابح ومجازر بحق المدنيين في فيتنام وكوريا واليابان والعراق وسورية وعشرات الدول الأخرى.

لتحاكم صدام والأسد والقذافي وغيرهم من رؤساء عرب على ما اقترفوه من جرائم بحق شعوبهم، وعلى إساءة استخدام السلطة، وعلى هدر مقومات دولهم وثرواتها، وعلى سياساتهم الغبية وتفردهم بالحكم وجلبهم جيوش الغرب الاستعماري للمنطقة.

لتحاكم وسائل الإعلام العربية على حملة التزوير والتضليل والتجهيل التي نفذتها لغسل أدمغة الشعوب، ولتمكين إسرائيل من تبرير جرائمها، ولإطالة أمد الحرب.

لتحاكم قادة إيران على جرائمهم في العراق وسورية وغزة واليمن ولبنان، وعلى نشرهم الطائفية.

لتحاكم قادة «حماس» على إحداثهم للانقسام، وجلبهم الحصار لغزة، وعلى تهورهم في مغامرة أودت بغزة إلى التهلكة، وجلبت نكبة جديدة لفلسطين، وعلى خطابهم المتعالي فوق جراح الغزيين، ولأنهم اعتبروا مقتل وإصابة وإعاقة ونزوح وتجويع مليونَي غزاوي مجرد خسارة تكتيكية، وثمناً لا بد من دفعه لضمان بقاء حزبهم حاكماً على غزة.

لتحاكم قادة السلطة و»فتح» على أخطائهم التاريخية، وعلى عجزهم عن فعل شيء حقيقي لغزة، وتخليهم عن ممارسة دورهم الكفاحي.

لتحاكم جماهير عمّان ورام الله الذين خرجوا في تظاهرات يرددون شعارات حط السيف قبال السيف.. وتناسوا مأساة غزة بكل ما فيها من تجويع وقهر وإذلال ومهانة وتقتيل وتشريد وبؤس.

لتحاكم من يسمون أنفسهم نخبة مثقفة، وبقايا يسار وقومجيّين وثورجيّين؛ لأنهم اعتبروا مقتل 500 جندي من جيش قوامه نصف مليون مسلح تعويضاً مناسباً وكافياً عن خسارة غزة كلها، وعن النكبة التي حلّت بنا جميعاً.  

لتحاكم كل العالم على تواطئه وجبنه في مواجهة العنصرية والغطرسة الإسرائيلية واستقواء الاحتلال على المدنيين في جريمة مستمرة منذ عقود.

المشكلة أن مثل هذه المحكمة لن تُعقد، وإن عُقدت سيخرج متثقافون، ومدعو وطنية، وشعبيون كُثر لتمييع الحقيقة، وتزييفها بشعارات براقة، وجمل مكررة.. لأن عدالة المحكمة تقتضي إدانتهم أولاً، وهذا ما يخشونه.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى