عبد الغني سلامة: ما هذا الصوت الغامض؟!
عبد الغني سلامة 24-11-2025: ما هذا الصوت الغامض؟!
من هذا الذي يوقظك في الصباح الباكر؛ اصحَ، تأخرت؟ دون أن تعرف تأخرت عن ماذا؟ حتى أيام العطل والجمعة يوقظك من عز نومتك، بينما هو نفسه يأتيك آخر الليل، وأنت «مهدود حيلك»، ونفسك تنام بسرعة، يأتي ويطيّر النوم من عينيك؟
من الواضح أني لا أتحدث عن المنبّه في الصباح، ولا أقصد الهموم والأفكار التي تبقيك يقظاً طوال الليل.. أسألُ عن ماهيّة ذلك الصوت الغامض الذي يهمس في أذنيك، ويتحدث معك طوال الوقت لا تعرف هل هو بداخلك، أم بجوارك.. حتى حين تنام، وتظن أنه نام معك أيضا، يقتحم أحلامك ويحيلها إلى كوابيس تشبه فيلم رعب رديء الإخراج منخفض الميزانية، وفجأة يستيقظ ويوقظك معه ويذكّرك بشخصٍ مات أو انقطعت أخباره قبل عشرين سنة.. أو يذكّرك بموقف محرج تمكنتَ من نسيانه بشق الأنفس.. أحيانا يستعرض قائمة ديونك ومواعيد كمبيالاتك ويتفقد حاجاتك بإلحاح شديد وإزعاج لا يتوقف، ويذكّرك بكل ما ينقصك (زيت القلي، محارم التواليت، جرة الغاز، سائل الجلي..) مع تذكير شامت بأنك لا تملك شيئا، وأنّ الراتب سيتأخر كثيراً.. وأحيانا يفعل العكس، يلهيك بأحلام اليقظة، ويسافر بك إلى جزر الكناري، وينسيك كل همومك.
أثناء التفكير (وهذا لا يحدث مع الجميع) تطرح عليك الأسئلة الصعبة، وبمجرد أن تعيد النظر في المسلّمات وتبدأ في التوصل إلى استنتاجات خطيرة يختفي ذلك المحاور لتبقى غارقا في واحتك المريحة متعايشا بسلام مع أفكارك القديمة.. هو أكثر من يحذرك من مغادرة أرضك الصلبة ويخيفك من مغامرة مغادرتها.. ولكنه أحيانا (لدى البعض القليل) يبقيك قلقا ومتوترا ودائم التساؤل والبحث، ولن يسكت حتى تطأ قدماك أرضا جديدة، بأفكار وتصورات مختلفة كليا.. وقد يعاود إزعاجك من جديد، فتلك طبيعته القلقة.
وإذا كنت تراجع نفسك وتقيّم أعمالك وأقوالك، وبحاجة إلى نصيحة صادقة لا تجامِل يهرب ذلك الصوت سريعا ويتركك في أوهامك.. أو بالعكس يبدأ بتقريعك وبهدلتك ولومك حتى تكره نفسك.
بعضنا يحاول الهروب منه، يقفل أي حوار بمجرد أن يبدأ، يتجاهل أسئلته المحرجة، وعند النوم، نلجأ إلى سماع موسيقى، أو مقاطع فيديو منوعة، أو الاستماع لمحاضرة.. لأننا نريد صوتا أعلى من صوتنا الداخلي.
هل ذلك الصوت الغامض هو أنا شخصياً؟ أم النصف الثاني من شخصيتي؟ أم هو شخص آخر؟ هل هو شيطان، أم ملاك؟ لو كان شيطانا لأمرني بالشر دوماً، ولكنه أحيانا يأمرني بما هو خير ومفيد. ولو كان ملاكي الحارس فلماذا يبرر لي سوءة أعمالي، ويجمّل لي أخطائي، ويخفف من وطأة تصرفاتي الشريرة؟ إذاً، هما صوتان يتناوبان ويتصارعان في داخلي، أحدهما صديق طيب، يريد لي المنفعة، والثاني شرير خبيث يحثني على المشاكل وارتكاب الأخطاء، ويدعوني للتهور.. ولكن من أين أتيا؟ ولماذا يحتلان دماغي؟ وهل بوسعي طردهما معاً، وإسكاتهما نهائيا؟ وإذا نجحتُ فعلاً في التخلص منهما، فهل سأعاني من الوحدة والسأم؟ فاستسلم تحت وطأة الصمت الثقيل فاستدعيهما للإقامة في دماغي من جديد!
هذا الصوت الخفي هو الضمير.. إجابة سهلة ومتوقعة.. ولكن ما هو الضمير؟ كيف يمكن رصده؟ وفي أي مختبر يمكن تحليله؟ وبأي وحدة قياس نحسب مقداره وكميته ودرجته ونسبته؟؟ وهل نشأ هذا الضمير معي، ونما وتطور وتغيرت شخصياته كما حدث معي بيولوجيا ونفسيا وإدراكا؟ بمعنى إذا كنتُ غبيا فهل هو غبي مثلي؟ وإذا اشتغلتُ على نفسي بالقراءة والتأمل والتعلم.. فهل يفعل مثلي؟ ما فائدته، إذاً؟
لماذا يغيب الضمير في الأوقات الحرجة؟ ولماذا يكون جيدا مرة، وسيئا مرات؟ وهل يختلف من شخص لآخر، تبعا لتربيته وثقافته وخُلقه.. وبالتالي فإن الضمير كلمة مبهمة ومطاطية، أو حتى لا معنى لها.
إذا استبعدنا مصطلح «الضمير»، فهل ذلك الصوت هل هو عقلك الواعي؟ أم عقلك الباطن؟ أم روحك؟ أم شخصيتك الأصلية التي تشكلت في الطفولة المبكرة؟ هل هو النفس والسريرة، أم الوعي والإدراك، أم الأخلاق.. وتلك جميعها مكونات غير مادية، وغير مرئية، وغير محسوسة، ويصعب على العلم قياسها، وإثبات وجودها.. لكنها حتما موجودة.. أو أنَّ الإنسان اختلقها لغرضٍ في نفسه!
إذا وقفتَ أمام المرآة، أو التقطت لنفسك صورة «سيلفي»، سترى الكائن الوحيد لذي تملكه ملكية خالصة، والذي سيعيش معك إلى الأبد.. هذا الكائن، هو أنت.. ربما تسأل نفسك: من أنا؟ حينها سيخرج ذلك الصوت وربما يلفت انتباهك إلى تجاعيد جديدة شقّت أخاديدها على خديك، أو يشير إلى سواد تحت جفنيك، أو يقول لك، ألوان ملابسك غير متناسقة، وربما العكس يبدأ بمديح طلتك البهية، ويجعلك تصدق أنك أذكى شخص على الكوكب.. فتنفرج أساريرك.
أحيانا تقول لنفسك، أشعر بالخجل من نفسي، أو «زهقان حالي»، أو أكره حياتي.. من الذي خجل من الآخر؟ من الذي ملَّ، وكره، وأحبّ؟ هل انفصلت عن ذاتك، وانشققت إلى نصفين، وصار كل نصف يكلم الآخر، ويبوح له بمشاعره؟؟
«أنا مين اللي صحّاني من عز النوم»؟! ما هذا الصوت؟ لا تتعجل في الإجابة، لأنه ببساطة هو أنت في المحصلة؛ هويتك، وشخصيتك، وأسلوب تفكيرك، وأولوياتك.. لا شك أن للإنسان شخصيات متعددة، ومركبة، ومتعايشة معاً.. وعيك لذاتك يتغير مع السنين والتجارب، وهذا وضع طبيعي.. وربما تعاني من انفصام في الشخصية، أو تعيش بشخصية مزدوجة، أو بشخصيات متعددة، أو يسكنك نظيرك الفضائي.. وهذه حالات مَرضية غالبا.. إذا استثنينا الإجابات الجاهزة لا أحد يعرف يقينا.
مثل تلك الأسئلة تغيب عن بالنا، أو نتجاهلها، مع أنها أسئلة مبسطة وربما ساذجة، وأقرب للهذيان، لكنها مهمة، فنحن نحتاج أن نعي حقيقة وجودنا، ونتعرف على دواخلنا أكثر.. وهذه مسألة صعبة، وتحتاج شجاعة.
في المقولة المتداولة: إذا تحدثتَ مع شخص افتراضي أثناء «صفنتك» أو أمام المرآة، فهذا شيء طبيعي، أما إذا سمعت صوت ذلك الشخص فعليك مراجعة أقرب طبيب نفسي.
اسمك وهويتك، وجنسك، وجنسيتك، ولون بشرتك، وقوميتك، ولغتك الأم، وديانتك وطائفتك.. وهي مكونات الشخصية الأساسية والتي ستحدد حاضرك ومستقبلك وأولوياتك.. جميعها اكتسبتها بالوراثة، خلال دقيقة واحدة بعد الولادة، دون أدنى جهد منك سوى جهدك أثناء شقّك طريق الخروج من قناة فالوب باتجاه الدنيا.
حتى تدرك ذاتك، وتفهمها، وتحبها، وتحب حياتك، وقرينك، وأحباءك، والعالم.. عليك أن تعرّف هويتك بأنك إنسان أولاً.. تجمعك مع الآخرين رابطة الإنسانية.

