عبد الغني سلامة: عن السلاح مرة أخرى

عبد الغني سلامة 18-8-2025: عن السلاح مرة أخرى
إذا اختلف شخصان على أبوّة طفل، وهدد أحدهما بأنه سيقتله إن أعطته المحكمة للشخص الثاني، فهذا يعني حتماً أن الأول لا يحب الطفل، ولا يريد له الحياة، إنما أحب نفسه وأراد الطفل له بدافع غزيرة التملك.
في خطاب الشيخ نعيم قاسم قال بما معناه: إن إسرائيل تهدد أمن لبنان وسيادته، وإنَّ سلاح حزبه هو الذي يردع تهديد إسرائيل ويضمن أمن لبنان، وإذا قررت الحكومة نزع سلاح الحزب فإنه سيخوض حرباً أهلية، ولن تكون للبنان حياة، وعلى البلد السلام.. تهديد مباشر وصريح مفاده: إما أن يتدمر لبنان على يد إسرائيل أو على يد الحزب (في حال تم نزع سلاحه).
حين اشتد الهجوم الإسرائيلي على لبنان أواخر العام الماضي، وتعرض الحزب لضربات موجعة وقاسية قضت على صفوف قيادته وعلى مقدراته ومعظم قوته.. حينها وافق الحزب على الهدنة، والانسحاب إلى ما وراء الليطاني، وسلّم أمره للدولة (بوساطة نبيه بري).. آنذاك قلنا ولأننا نُحسن الظن بالحزب إنه قرار شجاع ومسؤول هدفه درء الخطر عن لبنان والحيلولة دون تدميره، وحقناً لدماء اللبنانيين.. إدراكاً من الحزب بواقع الحال وصعوبة الموقف.
لكن، مع تهديد قاسم بحرب «كربلائية» ستدخل لبنان إلى الجحيم مرة ثانية، ولا أحد يعرف مداها، مع تأكدنا أنها ستحرق الأخضر واليابس، هذا يعني بداهة أن الحزب حين استجاب لوقف إطلاق النار فعل ذلك خشية على مصير الحزب، وليس خشية على مصير لبنان واللبنانيين.
والفرق بين الموقفين هائل جداً، لدرجة أن كل محاولات التخفي خلف شعارات المقاومة، والادعاء بتمثيلها الحصري، والدفاع عن البلد، وردع إسرائيل.. ستبدو مجرد شعارات لا تعكس الحقيقة، بل تعني أن تمسك الحزب بسلاحه إنما هو لأغراض أخرى: الحفاظ على الامتيازات والمكتسبات التي حققها الحزب خلال العقود الماضية في إطار المعادلة اللبنانية الداخلية، ليكون المهيمن والمسيطر على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان، وليتمكن من استمرار تأدية دوره الوظيفي في خدمة إيران.
موقف حزب الله من تسليم السلاح للدولة لا يختلف كثيراً عن موقف «حماس» في الشأن ذاته، مع فرق أن ادعاءات الحزب فيما يتعلق بالردع وحماية اللبنانيين تبدو أكثر إقناعاً من مقولات حماس، والسبب هو نوعية السلاح وقدراته، إضافة للفروقات المتعلقة بالجغرافيا السياسية وطبيعة أهداف إسرائيل تجاه لبنان المختلفة كلياً عن أهدافها تجاه غزة وقضية فلسطين.
وهذا يدعونا لطرح سؤال مهم: ما هو السلاح الحقيقي؟ وهل فعلاً هو لحماية الشعب من الاعتداءات الإسرائيلية؟
كانت حركة فتح أول من حمل السلاح، وأول من نادت بالكفاح المسلح، وأكثر من مارسته قولاً وفعلاً قبل انطلاقة حزب الله وقبل حماس بأكثر من عشرين سنة.. في البداية رفعت شعار الحرب الشعبية طويلة الأمد، وأن الكفاح المسلح السبيل الوحيد للتحرير.. لكنها ومع نضوج تجربتها السياسية واصطدامها بالواقع وتعقيداته.. أدركت أن الكفاح المسلح هو أحد الوسائل للتحرير، وليس الوحيد، ثم استعاضت عنه بالمقاومة الشعبية والنضال السياسي والإعلامي والجماهيري.. إلخ.
واكتفت بدعم تشكيلات صغيرة تمارس الكفاح المسلح على نطاق محدود، وحددت له دوراً سياسياً: إبقاء جذوة الصراع متقدة، إشغال الاحتلال وعدم منحه إحساساً بالراحة والاستقرار، وتعبئة الأجيال على فكرة المقاومة، وإعادة القضية إلى الواجهة كلما تجاهلها العالم.. دون التوهم بأن هذا النوع من المقاومة سيقضي على إسرائيل.. مع إدراكها بأن التحرير ومحاربة إسرائيل عسكرياً أمر يفوق قدرات الشعب الفلسطيني، ولا يمكن حسم حرب عسكرية مع إسرائيل إلا بجيوش عربية، وبتحالفات سياسية إقليمية ودولية تضمن تغيير النظام الدولي القائم منذ قرن.. وخلاف ذلك، أي محاولة اصطدام عسكري مع الكيان تعني حتماً خسارة المعركة، وتدفيع الشعب أثماناً باهظة بلا طائل ودون مردود، وإهداء العدو نصراً عسكرياً وسياسياً وبالتالي زيادة تمكينه..
اختيار أسلوب المقاومة ليس انتقاء مزاجياً، إنما يخضع لاعتبارات كثيرة، أهمها تقدير الموقف إستراتيجياً، ومعرفة حدود قوة المقاومة، وحدود قوة العدو، وطبيعة تركيبته، والمعادلة السياسية القائمة.. وعدم الانجرار إلى الساحة التي يستدرج العدو المقاومة إليها، وهي الساحة العسكرية، الساحة المفضلة عنده، التي يحقق في انتصارات كاسحة.
أنفق حزب الله مليارات الدولارات على مدى ثلاثة عقود في تعزيز قدراته العسكرية، وبنى منظومة صواريخ متطورة وشبكة اتصالات وتكنولوجيا وأنفاق ومخازن سلاح وعتاد وتدريب.. وفي اعتقاده أنه صار يشكل قوة ردع لإسرائيل، بحيث لن تجرؤ على اجتياح لبنان، وهذا الردع يشكل نوعاً من توازن القوى بين الطرفين.. ولكن عندما قررت إسرائيل المواجهة حصل ما حصل في نهاية العام الماضي، وانهار كل شيء.. الأمر نفسه ينطبق على حماس وبنتائج أكثر كارثية.. بل إن محور المقاومة كله انهار. هذه حقائق وليست تحليلاً، وكلنا حزينون على هذه النتيجة، والقضية ليست إثبات وجهة نظر، بل هي دعوة للتفكير والاستفادة من هذا الدرس القاسي.
حينما احتلت إسرائيل الضفة الغربية سنة 1967 عثرت في مدينة نابلس بأكملها على أربع قطع سلاح فقط (مذكرات دايان)، بمعنى أن الفلسطينيين في الأرض المحتلة لم يكونوا مسلحين، ولم تكن آنذاك فصائل مسلحة، وعندما دخلت مجموعات فدائية وبدأت تصعّد عملياتها العسكرية كانت لأهداف هجومية وسياسية ولم يقل أحد إنها للدفاع عن المدنيين.
الذي حمى المدنيين من بطش الاحتلال ليس سلاح المقاومة، فلو أراد الاحتلال ارتكاب مذبحة، أو هدم قرية، أو قصف مدينة، أو تدمير أي منشأة يستطيع ذلك بقوته العسكرية، وقد فعل كل ذلك وأكثر مئات المرات.. ولكن لم يصل مرة واحدة إلى هذا الحد من التوحش الذي نراه اليوم في غزة.. ما كان يردعه حقيقة طوال العقود الماضية: الموقف الدولي والعديد من الاعتبارات السياسية والإعلامية والقانونية التي لم يستطع الاحتلال تجاوزها بالقدر الذي يطمح له، فلو كان مطلق اليدين وبلا ضوابط خارجية لما تردد لحظة في قتل كل الفلسطينيين، أو معظمهم، وطرد من تبقى منهم إلى أقاصي الأرض.. فهذا حلم الصهيونية الأزلي وهدفها المعلن، وبالذات اليمين الصهيوني، الذي يهيمن على إسرائيل الآن.
بعد 7 أكتوبر، كل شيء تغير: إسرائيل تحاول تصحيح «الأخطاء التاريخية» للصهاينة الأوائل (إبقاء فلسطينيي الداخل، عدم طرد سكان الأرض المحتلة، اتفاق أوسلو..)، العالم تغير، والطرف الفلسطيني في وضع بائس وضعيف.. وفهم كل ذلك ضروري وأساسي، لأن المواجهة الأهم ستكون في الميدان السياسي.