عبد الغني سلامة: زمن الانتفاضة
عبد الغني سلامة 8-12-2025: زمن الانتفاضة
في مثل هذا اليوم قبل 38 سنة اندلعت شرارة الانتفاضة الشعبية الكبرى، انطلقت بالتوازي من مخيمي بلاطة وجباليا، وسرعان ما انتشرت في عموم الأرض المحتلة، على مدى نحو ست سنوات بين صعود وهبوط ومد وجزر مثّلت أرقى وأعظم أشكال المقاومة في سفر الكفاح الفلسطيني.
كنا خارج فلسطين آنذاك، نتابع يوميات الانتفاضة على الشاشات التي تعرض في دقائق معدودة خلال نشرات أخبار متباعدة صوراً من المواجهات بين المواطنين وقوات الاحتلال.
تابعناها بقلوبنا وعقولنا بكل شغف وحماسة، مأخوذين بسحرها، مندهشين من عبقرية الشعب التي تفجرت دفعة واحدة، نفرح لمشاهد الاستبسال لشبان وأطفال ونساء وهم يتصدون لآليات المحتل، ونحزن لأخبار مقتل اثنين أو ثلاثة من أبناء الوطن كل يوم تقريباً.. ولأننا كنّا شباناً متحمسين مندفعين بعواطفنا كنا نترقب أي خبرٍ عن عملية عسكرية، أو مقتل جنود إسرائيليين.. نريد تصعيداً أكثر، أحداثاً أكثر إثارة، نلوم الفصائل على تلكئها وتأخرها عن تنفيذ عمليات فدائية.
لم ندرك إلا متأخرين أنَّ عبقرية الانتفاضة وسر قوتها تمثّلت في سلميتها، وأنها لم تكن مسلحة.. اشتباكات وجهاً لوجه، بالحجارة والهتافات والمسيرات الشعبية والاعتصامات والإضرابات وبيانات القيادة الوطنية الموحدة.. بوحدة الشارع وتوحد الجماهير على نبض واحد.. بأشكال إبداعية للصمود، مثل العودة للزراعة ومحاولات تدبير اكتفاء ذاتي من خلال تكييف الاقتصاد المنزلي، وتقديم صور رائعة من التكافل الاجتماعي.
قيادة وطنية موحدة تقود الحدث وتوجهه وتحدد آليات وأشكال المواجهات ومواقيتها، لجان شعبية تتولى الحراسة وتنظيم الأمور الداخلية، والجماهير في ذروة عنفوانها وعطائها، وبروح معنوية عالية، يحدوها أمل كبير بتحقيق إنجاز سياسي نوعي سيفضي إلى جلاء الاحتلال.
كانت صورة واحدة تعمّمها وكالات الأنباء الأجنبية، وتنشرها مجلة «فلسطين الثورة» على غلافها، وتغدو «بوستر» وتصبح أيقونة، تجوب شاشات العالم وصحفه، قد تكون صورة لشاب يرفع العلم، أو صبية ترمي الحجارة، أو سيدة مسنة تنتزع الشبان من براثن الجنود، أو طفل يواجه دورية للاحتلال، أو جنود ينكلون بمواطن ويكسرون يديه.. كانت تلك الصور كافية لبث رسالة الشعب الفلسطيني إلى العالم، وكافية لفرض القضية على أجندات الدول الكبرى، كانت كافية لتحريك الشارع العربي، ولتسيير مظاهرات داعمة في مختلف العواصم، كانت كافية لبث الأمل وإعادة الروح لكل الفلسطينيين بأن قضيتهم في طريقها نحو حل عادل، وأنها عادت إلى مركزيتها.
على مدى ست سنوات تقريباً قُتل نحو 1300 فلسطيني (مقابل 160 إسرائيلياً) وهذا العدد يوازي حصيلة أسبوعين فقط من حرب الإبادة الأخيرة على غزة.. والتي قُتل فيها أزيد من 70 ألف إنسان، وضعفهم من الجرحى والمفقودين.. أما على مستوى التدمير والخسائر المادية فلا مقارنة بين الحدثين.
لم تتمثّل عبقرية الانتفاضة الأولى في كونها أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وحسب، فقد أعادت منظمة التحرير إلى الساحة الدولية، بعد سنواتٍ خمس من الحصار والتضييق وتجفيف مواردها المالية، ومحاولات شطبها وشقها وتجاوزها.. على المدى الإقليمي تردد مداها من المحيط إلى الخليج، فقد أنهت ثلاث سنوات من حرب المخيمات في لبنان، وأعلن الأردن فك الارتباط تجاه الضفة الغربية، وانفتح عهد جديد لعلاقة مزدهرة بين الأردن وفلسطين.
في الجانب الإسرائيلي اخترقت الانتفاضة جدار الوعي اليهودي، جعلت شرائح مهمة تعيد النظر في القضية الفلسطينية، وترى نفسها في مرآة الاحتلال الغاشم. سياسياً أجبرت الحكومة الإسرائيلية على إدراك الحقيقة بأنه لا مناص من التعامل مع منظمة التحرير، وأنه لا بديل عنها، بعد عقود من محاولات شطبها وتجاوزها، بجهود شخصية حثيثة قادها الثنائي رابين وبيريس على أمل خلق قيادة بديلة عن المنظمة انتهت كلها بالفشل.
يجب أن نجعل من هذه المناسبة فرصة للتقييم والمراجعة واستخلاص الدروس.. رغم كل عظمتها ومنجزاتها لم تكن الانتفاضة مثالية بالكامل، فهي مثل أي ظاهرة اجتماعية تمضي عليها فترة من الزمن لا بد أن تدخل عليها عوامل خارجية وداخلية تغير من نمطها، لذا لم يمضِ سوى سنتين حتى بدأت المشاكل والسلبيات تطفو على السطح، كان من آثارها الجانبية تدهور التعليم بسبب إضرابات المدارس، وتراجع المستوى المعيشي والاقتصادي بسبب الإضرابات والإغلاقات، اجتماعياً وقعت الانتفاضة في خطأ فادح تمثل في حظر كافة أشكال الفرح والاحتفال بالحياة، إضافة إلى وقوعها في مصيدة تسمى «المهابط الثورية»؛ أي تركيزها على محاربة ظاهرة الجواسيس، وبشكل خرج عن السيطرة وتحول إلى ثارات قبلية وتصفية حسابات شخصية وعائلية وحزبية ما ساهم في إحداث فوضى.
الدرس الأهم أن الانتفاضة أكدت وبشكل جلي أن النموذج الأفضل والأكثر نجاعة والأنسب لواقعنا في المقاومة هو نموذج المقاومة الشعبية السلمية.. فالمقاومة الشعبية وحدها قادرة على تحديد هدف سياسي واضح ومحدد وواقعي يمكن تحقيقه، ووحدها القادرة على تحييد آلة البطش الإسرائيلية، وسلب إسرائيل ميزة قوتها العسكرية، وحرمانها من استخدام منظومتها العسكرية المتطورة والجبارة.. وهي الوحيدة القادرة على اختراق المجتمع الإسرائيلي وكسب شرائح وقوى منه لصالح الرواية الفلسطينية. والوحيدة القادرة على جلب التعاطف الدولي؛ ليس تعاطفاً مع الضحايا وحسب، بل تعاطفاً وتأييداً للنضال الفلسطيني ومقاومته ومطالبه وحقوقه. فضلاً عن أنها تتيح المجال لمواصلة المقاومة بأقل قدر ممكن من التضحيات، وبما يحفظ المجتمع والمدنيين ويبقي على وتيرة الحياة سائرة ودون تعطيل.
للأسف، لم نستخلص الدروس، ولم نتعلم من تجاربنا، ولم نراكم على نضالاتنا ومنجزاتنا.. أراد كل فصيل أن يستقل بتجربته بمعزل عن الآخرين، وكأنّ الكفاح الفلسطيني بدأ معه، وارتبط به، وسينتهي بنهايته! فخاض مغامرته معزولاً عن كل السياقات الوطنية والتاريخية.
ننظر بأسى إلى حال الجماهير في حرب الإبادة، كيف تم تحييد قوتهم وفاعليتهم، بل تم تحويلهم إلى عبء، في صورة مأساة إنسانية. بل تم تقديمهم قرابين بلا مقابل لصالح أجندات وصراعات لا علاقة لها بالوطن.



