عبد الغني سلامة: المليار الذهبي
عبد الغني سلامة 12-10-2025: المليار الذهبي
طرح عالم رياضي اسمه «مالثوس» سنة 1830 نظرية مرعبة حول الانفجار السكاني، وخلاصتها أن عدد سكان العالم يتضاعف لوغاريتمياً، بزيادة أسرع من وتيرة إمدادات الغذاء للسكان، وأنَّ العالم ما لم يبادر إلى التنبّه إلى هذه المسألة، ويلجأ إلى تنظيم النسل، فإن الحروب والكوارث والمجاعات ستكون الخيار الحتمي للبشرية.
خلال الـ500 سنة الأخيرة تضاعف عدد سكان الأرض 14 مرة، وتضاعف إنتاجهم الكلي 240 مرة، وتضاعف استهلاكهم للطاقة 115 ضعفاً.. وما يزيد من خطورة الموقف أن الرأسمالية مورست وما زالت تُمارس بأبشع الأشكال، وقد أسست نظاماً طبقياً ظالماً، لدرجة باتت تهدد سكان العالم بأن يصلوا لمرحلة لا تعود فيها موارد الأرض كافية لتلبية احتياجاتهم «المتزايدة».. وعوضاً عن التفكير بإيجاد حلول منهجية تضمن التوزيع العادل للموارد، وجد البعض الحل بإنقاص عدد سكان الكوكب حتى تظل الموارد كافية، الأمر الذي عُبّر عنه بنظرية «المليار الذهبي».
تزعم نظرية «المليار الذهبي»، أن هناك قوى وأشخاصاً (طبعاً من الطبقات فاحشة الثراء) يسعون بالفعل إلى إنقاص عدد سكان العالم بصورة كبيرة، حتى يتمتعون مع البقيّة الباقية بخيرات الكوكب وبرفاهية الحياة.. وتحدد النظرية التعداد الكلي للسكان المنوي الوصول إليه بمليار نسمة فقط.
وهي نظرية لا تختلف عن نظرية «الأرض المسطحة»، و»حراس القطب الجنوبي».. وغير ذلك من هراء نظريات المؤامرات.. ليس لأن القضاء على سبعة مليارات نسمة يحتاج حرباً نووية، أو برامج تستغرق مئات السنين، وهو أمر متعذر ومستحيل، ولن يستفيد منها أحد من الجيل الحالي والقادم من أصحاب الثروات الطائلة.
مع ذلك، وبمعزل عن نظريات المؤامرة، بدأنا ندخل بالفعل عصر تناقص السكان، ربما للمرة الأولى منذ تفشّي مرض الطاعون في القرن الرابع عشر، والذي أدَّى إلى تناقص عدد سكان العالم بنحو الربع تقريباً. لكن الأسباب هذه المرة مختلفة، أبرزها الخيارات التي اتّخذها البشر، مثل تقليل عدد أفراد الأسرة، والعزوف عن الزواج، وبالتالي تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة أعداد الوفيات على أعداد المواليد الجدد.
على كوكبنا ثمة مناطق ستتراجع فيها أعداد السكان بشكلٍ مخيف، في مقدّمتها القارة الأوروبية، وروسيا واليابان وكوريا، وكندا، حيث لم تفلح كافّة التسهيلات التي وفّرتْها تلك الدول لمواطنيها في الدفع نحو زيادة عدد سكانها.. وسيستقر أو سينخفض تعداد السكان بدرجة أقل في أغلب بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (بسبب الوعي، ولأسباب اقتصادية)، بينما يزداد عدد السكان في الولايات المتحدة (بسبب تدفق الهجرة)، والصين بدرجة منضبطة.. لكن الزيادات غير المنضبطة من نصيب الهند وباكستان وبنغلاديش وأندونيسيا، وبعض الدول الإفريقية (أثيوبيا، نيجيريا، مصر..).
تشير دراسات الأمم المتحدة إلى أنّ معدلات الخصوبة العالمية انخفضت منذ الانفجار السكاني في ستينيات القرن العشرين. حيث بقيت على مدى جيلين بمستويات الإنجاب المتوسطة، ثم بدأت بالانخفاض بشكل ملحوظ، ويفيد برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ بأن سكان شرق آسيا (الصين واليابان وكوريا وتايوان) يتقلَّصون. وبما أن سكان العالم بالمجمل صاروا أكثر ثراءً وصحّةً وتعليماً وثقافةً، يتوقع الخبراء توالي انخفاض معدلات المواليد. وأن يستقر عدد سكان الكوكب إلى ما دون العشرة مليارات نسمة مع نهاية القرن الحالي.
لكن هذا التراجع السكاني العالمي ليس جيداً بالضرورة، خاصة للأثرياء، وتداعياته ستكون عكس نظرية المليار الذهبي، أي ضد مصلحة كبار أثرياء العالم؛ فانخفاض عدد السكان من شأنه أن يقلب الإيقاعات الاجتماعية والاقتصادية المألوفة رأساً على عقب. فمن ناحية ستنخفض أعداد العمّال والمدخِّرين ودافعي الضرائب والمستأجرين ومشتري البيوت والمستهلكين والناخبين.. وهؤلاء يشكلون السوق اللازم لأصحاب الصناعات العملاقة وفاحشي الثراء، ومن دونهم يصبح الإنتاج عالياً ودون أي فائدة ويسود الكساد.. ومن ناحية ثانية حتى تزدهر أعمال «كبار الأثرياء والمنتجين» فإنهم يحتاجون رجال أعمال رياديين، وسماسرة أذكياء، ومبتكرين ومخترعين وعباقرة وعلماء ومفكرين وأصحاب نظريات.. وهؤلاء نسبة توفرهم ضئيلة جداً ونحتاج مليارات البشر للحصول عليهم بما يكفي لتشغيل ماكينات الإنتاج العالمي.
بالإضافة إلى ذلك، سوف يؤدّي تراجع السكان والانحدار السكاني المطوَّل إلى شيخوخة البلد الشاملة، وبالتالي إلى إعاقة النمو الاقتصادي والضغط على أنظمة الرعاية الاجتماعيّة في البلدان الغنية، ما يهدد إمكانية استمرار الرخاء في تلك البلدان.
الاقتصاد الحديث يوفر حلاً لهذه المعضلة.
يقول نوح هراري في كتابه «العاقل»: لفترات طويلة من التاريخ، وبسبب شح الموارد ولأن الاقتصاد كان بدائياً كان الصراع بين المجموعات البشرية عنيفاً وبمعادلة صفرية لا تقبل الشراكة، حتى ظهر نظام اقتصادي جديد قائم على الثقة بالمستقبل.. هذا النظام جعل الناس تتداول سلعاً متخيلة لا وجود لها في الحاضر، بنوع خاص من المال سمّوه «ائتمان»، أي بناء الحاضر على نفقة المستقبل، بثقة كبيرة بأن المستقبل سيوفر مزيداً من الموارد والأرباح والفرص.
مع أن نظام الائتمان (أي الدين) كان معروفاً منذ القدم، إلا أنه لم تكن لدى الناس آنذاك ثقة بالمستقبل، وكان الاقتصاد عبارة عن كعكة محدودة يجري تقاسمها بين من يملكون المال، فإذا أثرى شخص ما سيكون ذلك على حساب الآخرين، لذا لم يتطور الاقتصاد. لكن النظام المصرفي الجديد سيحل هذه المعضلة، وسيحرر الاقتصاد من الجمود، فلم تعد الكعكة محدودة، وصار بالإمكان للأعمال والمشاريع المتنافسة أن تزدهر.. هذا كان الحل في آخر 300 سنة تقريباً، ماذا بشأن المستقبل؟
العلم أيضاً يقدم لنا حلولاً خلاقة، من خلال الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية وتقنيات النانو والنظريات الفيزيائية الحديثة، وتحسين تقنيات الزراعة والإنتاج الغذائي، ووقف الهدر.. لكن العلوم مثل الاقتصاد يمكن إساءة استخدامها، لذا نحتاج نظاماً عالمياً أكثر عدالة وإنسانية، يوزع الموارد بعدل، دون قهر ولا استغلال، ويعلي من قيمة الإنسان، ما يتطلب منع الحروب وإيقاف سباق التسلح ووضع حد للصراعات والسياسات الإمبريالية.
مهما بلغ تعداد سكان العالم، بالعدالة والعلم والتعايش السلمي وبقوة القانون نستطيع الاستمرار والازدهار.. المهم أن نحيا معاً بسلام، دون حروب وكراهية، وأن نحترم البيئة، ونقدّر الكوكب الذي تحمّل غباءنا كثيراً.



