أقلام وأراء

عبد الحليم قنديل يكتب – فلسطين بعد ترامب

عبد الحليم قنديل *- 14/11/20020

لم تكن هزيمة ترامب مفاجأة كاملة، فقبل جائحة كورونا وعواقبها الاقتصادية المدمرة، التي افترست أمريكا أكثر من غيرها، كان فوز الرجل البرتقالي برئاسة ثانية مرجحا وشبه مؤكد، كانت مؤشرات الاقتصاد والتوظيف لصالحه تماما، وبعد اجتياحات كورونا، انقلبت حركة البندول، وصارت هزيمته واردة، خصوصا بعد انتفاضة الشوارع الكبرى ضد عنصريته الفجة، وعلى نحو ما عبرت عنه مبكرا نسبيا، وما بدا في مقالي المنشور تحت عنوان «أبعد من ترامب» بتاريخ 12 يونيو/حزيران 2020، ثم في مقال التوقع الأخير المنشور قبل شهر كامل من موعد الانتخابات الأمريكية، الذي حمل عنوان «حروب ترامب الأخيرة» وظهر في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2020، وإن لم نغفل طبعا، قوة القاعدة المؤيدة المتعصبة لترامب، التي حصل بها على أكثر من سبعين مليون صوت انتخابي يستند إليهم في معانداته ومعاركه القضائية قليلة الحظوظ، وفي رغبة عبّر عنها في إعادة الترشح في انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2024.

وبعيدا عن تفاصيل ما جرى ويجري، فقد قضي الأمر، وهزم ترامب نفسه بنفسه، ووقعت الرئاسة في حجر جو بايدن، وقد حصل على أكبر رقم من الأصوات لصالح مرشح رئاسي في مطلق التاريخ الأمريكي، وفاز بالتصويت الشعبي والمجمع الانتخابي معا، رغم الفتور البادي في تكوينه الشخصي، وتقدمه في العمر عن ترامب، وتاريخه الطويل من الفشل المتكرر في اعتلاء كرسي الرئاسة، وقد تطلع إليه مرات، وسعى لترشيح نفسه منذ عام 1987، وخرج مبكرا من المنافسه مع باراك أوباما، في نيل ترشيح حزبهما الديمقراطي، وكافأه أوباما بتعيينه نائبا للرئيس طوال ثماني سنوات، ثم عاود بايدن رغبته بالترشح في انتخابات 2016، ومنعه أوباما بدعوى ضعف فرصه قياسا إلى فرص هيلاري كلينتون، التي فاز عليها ترامب بأصوات المجمع الانتخابي، ثم استهان بمنافسه (جو النعسان) في الانتخابات الأخيرة، الذي آل إليه مقعد الرئيس المنتخب بعد انتظار طال لنحو أربعين سنة.

وقد لا يهمنا كثيرا اسم سيد البيت الأبيض، فهذه قصة تخص الأمريكيين بالأساس، وبلدهم الكبير، المتراجع في المنافسة العالمية العظمى مع الصين الزاحفة اقتصاديا وتكنولوجيا، يعاني انقساما مجتمعيا متفاقما، ربما لم تشهده الولايات المتحدة منذ حربها الأهلية قبل أكثر من 150 سنة، وهذه هي القضية الكبرى التي تشغل بال جو بايدن، ومنحها الأولوية في خطاب نصره الأول، وإن كان يتطلع بالتوازي إلى ما يسميه «استعادة احترام» العالم لأمريكا، بدءا بالعودة لالتزاماتها السابقة، التي أطاح بها ترامب بجرة قلم، من نوع عزم بايدن العودة لاتفاقية المناخ، وإلغاء أوامر ترامب العنصرية بحظر دخول القادمين من دول ذات غالبية مسلمة، إلى غيرها من تعهدات «اليوم الأول» في الرئاسة، عقب حفل التنصيب المقرر في 20 يناير/كانون الثاني 2021، وقد يضيف بايدن في شهوره التالية أولوية لاهتمامات أخرى، من نوع ترميم التصدعات عبر الأطلنطي في العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي، وربما استعداده لفتح حوار مع إيران حسب رغبة الشركاء الأوروبيين، وإجراء تنقيح إضافي للاتفاق النووي كشرط لعودة واشنطن إليه، مع سياسة خشنة نسبيا تجاه تركيا إردوغان، ودعم اليونان وقبرص في خلافات التنقيب شرق المتوسط، فيما لا تبدو أحوال المنطقة العربية موضع اهتمام مركزي عند إدارة بايدن، على الرغم من تصريحاته المستفزة لعدد من الأنظمة القائمة، وقد سارعت كلها لتهنئته، في حين تبقى إسرائيل (درة التاج) في سياسة بايدن، تماما كحال رؤساء أمريكا عموما، وربما بطريقة مختلفة قليلا عن مقاولات ترامب (السلامية).

“إسرائيل هي القاسم المشترك الأعظم في سياسة وأولويات كل رؤساء أمريكا، وهي «المقدس» الذي لا يعلوه اعتبار آخر”.

وقد لا يبدو ولاء بايدن لإسرائيل موضعا لاختلاف جدي، صحيح أنه اقترب من الجناح اليساري لحزبه الديمقراطي بحكم الحاجة الانتخابية، وعين كامالا هاريس (الملونة) نائبة له، وهي قريبة على نحو ما من الديمقراطيين التقدميين، وأبرزهم السيناتور بيرنى ساندرز (اليهودي) وهو القيادي الديمقراطي الذي يتعاطف مع حقوق الفلسطينيين، وأعرب علنا عن معارضته لفاشية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكن السيناتور هاريس ذات الأصول الهندية والجامايكية، لا تبدو مهتمة كثيرا بقضية مراجعة الموقف من إسرائيل والفلسطينيين، بل قد تبدو مغرمة أكثر بكسب دعم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، ربما من نافذة زوجها المحامي اليهودي دوج إيمهوف، الذي يدخل معها إلى البيت الأبيض، وبلقب «الزوج الثاني» بعد الرئيس، على طريقة اليهودي جاريد كوشنير زوج إيفانكا ترامب، وليس خافيا سعي كامالا هاريس إلى طموح أعلى، فهي أول امرأة نائبة للرئيس في التاريخ الأمريكي، وبالطبع أول ملونة في المنصب الرفيع، وتفضل أن تبدو نسخة نسائية من سيرة الملون باراك أوباما، وقد كان أول رئيس من نوعه في البيت الأبيض، وتدرك هاريس أن بايدن غالبا هو رئيس لفترة واحدة، لاعتبارات تقدم العمر وأشياء أخرى، وتسعى إلى كسب فرصتها المقبلة في الترشح على مقعد الرئاسة، وإلى الاستفادة من موقعها الجديد لتقديم نفسها للعالم، وكسب رضا إسرائيل بالذات، وهو ما يبدو متسقا تماما مع عقيدة رئيسها جو بايدن، الذي قضى نحو خمسين سنة في مناصب تشريعية وتنفيذية، ويعد مثالا معجونا بماء وتقاليد وأسرار مؤسسة الحكم الأمريكية، ويعتبر نفسه «صهيونيا متشددا» على الرغم من مسيحيته الكاثوليكية، وسخر مرات من الذين يطالبون واشنطن بالاعتذار عن موقفها المؤيد بالمطلق لعدوانية وعنصرية إسرائيل، وقال بالنص «لو لم توجد إسرائيل لاخترعناها» فهو لا يتخيل دورا لأمريكا في العالم وفي منطقتنا بدون إسرائيل وقوتها المفرطة، التي تغني أمريكا عن دفع تريليونات الدولارات لحشد جيوش وتسيير سفن حربية وطائرات، وهو ما يعني ـ بمقتضى رأيه ـ أن إسرائيل أهم قاعدة أمريكية في الدنيا كلها.

والمعنى ببساطة، أن بايدن أخطر من ترامب في ما يخص الولاء لإسرائيل، فولاء بايدن أيديولوجي، وعن اقتناع كامل، وبسيرة ممتدة من «الصداقة» عبر أربعين سنة، كما قال عنه نتنياهو، أما ولاء ترامب، فقد كان أقرب إلى منطق المقاولات والصفقات، وحقق لنتنياهو كل ما أراده، من تأييد ضم القدس والجولان، إلى دفع دول عربية لتعجيل عقد «اتفاقات إبراهام» للتطبيع والتحالف مع تل أبيب، وعلى ظن من ترامب أنه يكسب بذلك قوة اللوبي اليهودي الأمريكي إلى جواره في الانتخابات الرئاسية، وهو ما حدث جزئيا، فقد ذهبت ثلاثة أرباع أصوات اليهود كالعادة التاريخية إلى بايدن مرشح الحزب الديمقراطي، الذي لن يتراجع عن شيء مما فعله ترامب لخدمة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وإن جاز أن يتصرف بطريقة تبدو أكثر رصانة وأقل ضجيجا، ربما بمعين الخبرة المعتقة الذي يملكه، فقد يعيد إلى الفلسطينيين بعض معونات مالية أوقفها ترامب، وقد يعود إلى دبلوماسية كلاسيكية تمتص الوقت، ويعود لاجترار كلام متقادم عن «حل الدولتين» ولكن من دون ضغط على «حبيبته» إسرائيل، فالأخيرة هي القاسم المشترك الأعظم في سياسة وأولويات كل رؤساء أمريكا، وهي «المقدس» الذي لا يعلوه اعتبار آخر في تيارات السياسة الأمريكية الرئيسية، وحتى أوباما الملون بأصوله الافريقية، وقد كان أكثر حيوية بما لا يقاس إلى وهن بايدن، وكان يبدي تعاطفا ظاهرا مع حقوق الفلسطينيين في الحدود الدنيا، ولم يكن نتنياهو يستريح إليه، ولا تجمعه معه كيمياء توافق شخصي، بأي درجة، ويكتم غضبه من مواقفه المعلنة ضد توحش الاستيطان اليهودي في القدس والضفة الغربية المحتلتين، لكن آخر قرارات أوباما قبل مغادرته البيت الأبيض مباشرة، كانت هدية ثمينة لإسرائيل، وبقيمة 38 مليار دولار، منح أسلحة متطورة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، فعلها أوباما، ربما تكفيرا عن ذنبه في إثارة حفيظة نتنياهو.

وباختصار، لا تبدو طبيعة إسرائيل ككيان استعماري استيطاني إحلالي مدانة في التفكير الأمريكي السائد، فقد نشأت أمريكا نفسها كذلك، وعلى جثث مئات الملايين من الهنود الحمر، وهو ما يعني بوضوح، أن فرصة إنصاف الحق الفلسطينى ليست في أمريكا، ولا في البيت الأبيض، وأن الترحيب الفلسطيني الرسمي بفوز جو بايدن من رام الله، أو من غزة، قد لا تكون له قيمة عملية كبيرة، فأمريكا ـ كإسرائيل ـ لا تفهم سوى لغة القوة وموازينها، وهو ما قد يصح أن يتنبه له الفلسطينيون مجددا، ويتوقفوا عن الركض وراء الأوهام، التي استغرقت من عمر قضيتهم أكثر من ثلاثين سنة، فالحل ليس في واشنطن، ولا في مؤتمر دولي جديد على طريقة مؤتمر مدريد، ولا في تفاوض ميت على طريقة أوسلو وأخواتها، بل في رصاصة الفدائي وصرخة المقهورين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى