أقلام وأراء

عبد الحليم قنديل يكتب –  التسوية المستحيلة

 عبد الحليم قنديل *- 29/5/2021

هل من أفق مفتوح للتقدم إلى تسوية قريبة على الجبهة الفلسطينية؟ لا يبدو الجواب بالإيجاب واردا في المدى المنظور، صحيح أن ثمة نشاطا سياسيا ودبلوماسيا مكثفا متواترا يجري بعد قيامة فلسطين الأخيرة، وعقب التوصل لوقف إطلاق النار، بتدخل ووساطة مصرية أساسا، وبترحيب أمريكي ظاهر، وبمحادثات هاتفية مطولة ومتكررة، بادر إليها الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عكست اهتماما واعترافا أمريكيا متزايدا بتقدم الدور المصري القيادي الجديد في المنطقة، وشملت أغلب قضايا الاهتمام المشترك في المحيط العربي، بما فيها أولوية مشكلة سد النهضة وحقوق مصر المائية غير القابلة للتصرف، وركزت بالطبع على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وإن ظلت الهوة واسعة وعميقة.

الدبلوماسية المصرية تتحدث عن ضرورة التوصل لحل دائم عادل شامل، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس على حدود الرابع من يونيو 1967، بينما تميل واشنطن كعادتها إلى إدارة الصراع لا حله، والتحيز المطلق لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وتناول مفردات جزئية، من نوع إعادة إعمار غزة، والدعم المالي لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» وإعادة مدّ الجسور مع سلطة الرئيس عباس، وتجنب التعامل المباشر مع حركة «حماس» وتفضيل التواصل معها عبر القاهرة وعواصم أخرى، والبحث في صيغ ما يسمى «هدنة دائمة» بعد أربعة حروب دامية دارت بين جيش الاحتلال وفصائل الصواريخ والمقاومة في غزة .

والمعنى ببساطة، أنه لا فرصة للوصول إلى تسوية عادلة، في مدى الشهور المقبلة، وربما في سنوات إدارة بايدن كلها، حتى لو جرى استئناف التفاوض، أو عقد لقاءات على نحو مباشر، أو غير مباشر، كما أوحت زيارات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأخيرة للقدس ورام الله والقاهرة وعمان، فقد أظهر الصدام الشعبي والحربي الأخير وجها أصيلا كان مخفيا للصراع، ولم تعد القصة محصورة في غزة، ولا في الضفة، ولا حتى في القدس الشرقية، ولا في نتائج عدوان 1967، بل عادت القضية الفلسطينية إلى صباها وفتوتها الأولى، وعاد الصراع إلى كل فلسطين من النهر إلى البحر، ومن «رفح» إلى «رأس الناقورة» وهذا هو المكسب الحقيقي الباهر لقيامة القدس وفلسطين الأخيرة، فقد كانت حروب 2008 ـ 2009 و2012 و2014 تدور في غزة، أو على غلافها المحتل، بينما كانت حرب 2021 مختلفة نوعيا، وجعلت غزة جزءا من معنى فلسطيني جامع، أكده تضاعف مدى الصواريخ «الغزاوية» إلى كل فلسطين المحتلة، وهلع أغلب سكان إسرائيل، واللجوء شبه الجماعي إلى المخابئ والملاجئ، فوق صحوة فلسطينيي الداخل على نحو غير مسبوق منذ نكبة 1948، ولم يكن لذلك كله أن يحدث، لولا تراكم أثر الانتفاضات الفلسطينية الأحدث في 1987 و2000 و2015 و2017، ولولا رمزية «القدس» التي بدأت منها القيامة الأخيرة، وهذا ما يدركه كيان الاحتلال بالغريزة، وجعله يواصل الحرب، رغم سريان اتفاق وقف إطلاق النار مع غزة، وعلى جبهات اقتحام المسجد الأقصى، والعدوان اليومي على حي الشيخ جراح وبطن الهوى، وغيرهما من أحياء القدس، وقتل الناشطين الفلسطينيين في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وأسر المئات من قادة انتفاضة الداخل الفلسطيني، فقد اتسعت جبهات الصدام بما لا يقاس، إلى ما كان من قبل، ويسعى كيان الاحتلال إلى مطاردة أشباح هزيمة تاريخية بدت نذرها، ويريد أن يصادر بالقوة الفظة العارية على احتمالات المستقبل الفلسطيني، فقد بدا وكأن كل شهداء فلسطين على مدى تاريخها الحديث، عادوا من المقابر ثانية، واستأنفوا رحلة الثأر للوطن السليب كله، وبما لم يرد أبداً في حسابات المخطط الإسرائيلي، الذى تصور أن اتفاقات تطبيع «إبراهام» وإغراءاتها، قد تكتم أنفاس فلسطين إلى الأبد، بينما حدث العكس بالضبط، فليست القصة في خسائر الفلسطينيين بغزة، ولا في غيرها، ولا في مئات الفلسطينيين الذين ارتقوا إلى سماوات الشهادة، ولا في التشريد والهدم، ولا في تدمير آلاف الوحدات السكنية كليا وجزئيا، وكل ذلك مما اعتاده الفلسطينيون في رحلة العذاب الطويل، وصبروا على مكارهه وآلامه وتضحياته، بل القصة في مكان آخر، في ذعر إسرائيل الغريزي التاريخي، وفي المخاوف من انزلاق إلى الهاوية، فقد تصنع القوة الظالمة واقعا موقوتا، لكن ليس بوسعها طمس الحقائق الأكثر رسوخا، وقد وصلت إسرائيل إلى ذروة توسعها في حرب 1967 الخاطفة، لكنها لم تنتصر أبدا في أي حرب تلت، لا في حرب الاستنزاف ولا في حرب أكتوبر، ولا في حرب لبنان، ولا في حروب غزة ذاتها، التي جلت عنها إسرائيل من طرف واحد، وفككت مستعمراتها اليهودية فيها عام 2005، ليس باتفاق سلام مما يعدون، بل تحت ضغط انتفاضات الحجارة والرصاص، ومن دون توقيع صك تطبيع ولا استسلام، ولا حتى قبول لصيغة «هدنة دائمة» إلى اليوم.

والمعنى مجددا، أننا بصدد انكماش تاريخي متزايد في توسعات كيان الاحتلال، فوق الانكماش السكاني مع تزايد الكثافة الفلسطينية في الأرض المقدسة، وبمداخل وملابسات تاريخية متنوعة، بدءا من تحرير سيناء، التي تساوي مساحتها ثلاثة أمثال ونصف مثل مساحة فلسطين المحتلة كلها، ثم عودة الجيش المصري بهيئته الكاملة في السنوات الأخيرة إلى الحدود المصرية الفلسطينية التاريخية، بعد الإنهاء العملي لمناطق وشروط نزع السلاح المنصوص عليها، في ما يسمى «معاهدة السلام» القائمة نظريا، ثم الجلاء الإسرائيلي الإجباري عن جنوب لبنان هروبا من ضربات المقاومة، ثم الجلاء عن غزة، ثم الجلاء عن مزارع الأردن المؤجرة، بعد ربع قرن على معاهدة «وادي عربة» ثم عودة الروح القومية إلى الشوارع العربية الممزقة مع البعث الفلسطيني الجديد، وانفتاح سبل عمل ثلاثة إلى هدف التحرير الفلسطيني، أولها: المقاومة الشعبية والمسلحة على خريطة فلسطين كلها، وثانيها: المقاطعة الشعبية العربية لكيان الاحتلال واتفاقات التطبيع، وثالثها: مناصرة أحرار العالم للقضية العائدة إلى التوهج، وتدفق مظاهرات التضامن بمئات آلاف الناشطين مع الحق الفلسطيني، حتى في عواصم الدول الغربية الكبرى، التي أنشأت كيان الاحتلال ودعمته وتدعمه، وبالذات في بريطانيا صاحبة «وعد بلفور» وفي أمريكا كفيلة إسرائيل وأمنها ووجودها المهدد، وكما لم يحدث على مدى 73 سنة من عمر النكبة الفلسطينية.

ومن الخطأ اختصار قضية فلسطين في حركة أو فصيل بعينه، أو حتى في صراع ديني محض ضيق الأفق بطبعه، فنحن لا نعادي اليهود كيهود، بل نعادي الصهيونية وأساطيرها المصطنعة المكذوبة، التي احتلت فلسطين، واستوطنتها وشردت أهلها، ولم تفلح رغم توالي نوبات التهجير والمجازر، في نفي الوجود الفلسطيني المتكاثر الصامد على أرضه، الرافض لانتقاص حقه، المصمم على مواصلة معارك التحرير الوطني، وبالصور والأساليب المتاحة كافة، وحتى إقامة دولته الديمقراطية على كامل أرضه المحتلة، وبغير تمييز ديني أو عنصري، وهذه رحلة قد تطول بطبائع الأحوال، وعلى مدى العقود القليلة المقبلة، وقد لا يفيد معها استئناف المفاوضات إياها، وقد استمرت بغير جدوى عبر نحو ثلاثين سنة سبقت، منذ عقد اتفاقية «أوسلو» وأخواتها، التي تحولت إلى قيد ثقيل على انطلاقة حركة الشعب الفلسطيني، وأدخلته في متاهة، لم تنقذه منها غير قيامة القدس وفلسطين الجديدة، فقد يكون مقبولا ومعقولا، أن يتقدم الشعب الفلسطيني إلى حقه كاملا على مراحل إنجاز متلاحقة، وأن تتحرر قطعة أرض تلو الأخرى، وعلى نحو ما جرى في تحرير «غزة» وهذه طريقة مختلفة في الفهم والسلوك، ليست واردة في ما يعرض من تسويات على الموائد اليوم، كتلك الطبخة المسماة «حل الدولتين» وبتبادل أراض، والإبقاء على أغلب المستعمرات اليهودية في الضفة، ومن دون استعادة القدس، أو مع افتعال «قدس أخرى» خارج حدود زهرة المدائن، ونزع سلاح الدولة الفلسطينية المقترحة، وهذه كلها صيغ تداول، لن يقبلها الشعب الفلسطيني فيما نظن، حتى لو تورط أحدهم ووقع عليها، فتكون نهاية سيرته المستعجلة، الساعية إلى تسوية تبدو مستحيلة القبول شعبيا، في وقت عادت فيه السيرة الفلسطينية من حيث بدأت، وهذه طبيعة المأزق الراهن لمحاولات وجهود التسوية إياها، فقد تعود المفاوضات، وتنعقد المؤتمرات، وتجري اتفاقات على عناوين تهدئة موقوتة، وعلى التقاط أنفاس، وعلى إعادة تنظيم وتبادل أدوار إقليمية، أو حتى تحسين وتجديد وتوحيد قيادة وطنية فلسطينية، لن تكون عندها مستعدة لقبول ما يعرض من تسويات مجحفة، تقطف الثمار من جذورها قبل تمام النضج .

 * كاتب مصري  .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى