أقلام وأراء

عبد الحسين شعبان: العراق: استعصاء سياسي أم أزمة بنيويّة؟

عبد الحسين شعبان ٢١-٥-٢٠٢٢م

ما يزال العراق يعيش وضعاً استثنائياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى. وهذا الوضع الاستثنائي يستمر منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، ففي عام 1980 دخل العراق حرباً مع إيران، ظلّ أوارها مشتعلا لثماني سنوات (1988). وفي عام 1990، بدأت مغامرة غزو الكويت في 2 أغسطس وقادت إلى كارثة حقيقية بمسلسل قائم حتى الآن.
كانت البداية حرب قوات التحالف عام 1991 لتحرير الكويت، لكنها قادت إلى تدمير جزء كبير من البنية التحتية والمرافق الحيوية العراقية، والأكثر من ذلك تم فرض حصار دولي شامل، طحن عظام العراقيين مثلما محق كراماتهم، دام 12 عاماً ونيّف وكان أقرب إلى إبادة جماعية، وتُوّج لاحقاً باحتلال ممنهج في إطار ما أطلق عليه “الفوضى الخلّاقة” (2003)، بزعم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل والعلاقة بالإرهاب الدولي، فضلاً عن إقامته ديمقراطية تكون نموذجاً للشرق الأوسط. فما الذي حصل؟ أقيم نظام حكم أساسه المحاصصة الطائفية ـ الإثنية والتقاسم الوظيفي وتقديم قوى ما دون الدولة لتصبح ما فوقها، سواءً كانت دينية/ طائفية، أم إثنية أم عشائرية أم حزبية أم جهوية أم غيرها، خصوصاً في ظلّ انتشار السلاح ونشاط ميليشيات تم دمجها بالجيش أو ظلّت خارجه، وتفشّي ظواهر العنف والإرهاب واستشراء الفساد المالي والإداري نتاج الفساد السياسي القائم على المغانم والزبائنية.
ذلك كان حصيلة ما بعد الديكتاتورية التي حكمت البلاد ثلاثة عقود ونيّف من الزمن، فأنتجت تشوّهات عديدة في المجتمع العراقي زادها الحصار الدولي عمقاً وتشعّباً ما أضعف الوطنية العراقية ودفع بالهويّات الفرعية الإثنية والطائفية إلى الصدارة في عملية انفجارية ساعد في تقنينها الدستور العراقي النافذ (2005) تحت عنوان “المكوّنات” التي جاء على ذكرها عدّة مرات (مرّتان في المقدّمة وفي المواد 9 و12 و49 و125 و142) كما حمل الدستور ألغاماً عديدة تكاد تنفجر في كلّ لحظة وأمام أي منعطف وزاوية، مهدّدةً النسيج العراقي ومُضعفةً الوحدة العراقية. جدير بالذكر أن المسوّدات الأولى لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية كانت من إعداد نوح فيلدمان الأمريكي المتعاطف مع “إسرائيل”، وشارك في وضع الألغام بيتر غالبرايت وهو دبلوماسي أمريكي، وكان أول سفير للولايات المتحدة في كرواتيا، وتمّ ترحيل العديد من مواد “الدستور المؤقت” إلى الدستور الدائم الذي كانت مرجعيّته الفكرية وخلفيته الحقوقية “قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية”. ولعلّ حالة التشظّي والتفتّت وعدم الثقة نجمت عن ممارسات استعلائية وتهميش من جانب الحكومات المتعاقبة للمجموعات الثقافية، خصوصاً فترة النظام السابق، الذي استمرّ بطرق مختلفة ومنفلتة، الأمر الذي فجّر أزمة الهويّة وقاد إلى تمترسات تهدّد مستقبل التعايش ووحدة البلاد، وهكذا تعكّز أمراء الطوائف والمستفيدون من النظام الجديد على الامتيازات الكبيرة التي حصلوا عليها خارج دائرة المواطنة، والتي جرى تعويمها رغم أن الدستور جاء عليها. وبالطبع فإن هذه الامتيازات سوف لا يتم التنازل عنها طوعاً أو عن طيب خاطر، لأن هؤلاء يعتبرونها مكاسب واستحقاقات للمكوّنات لن يتخلّوا عنها.

لعلّ ذلك يشكّل الخلفية للاستعصاء الذي وصلت إليه العملية السياسية، التي لم تعد قادرة على الاستمرار بالطريقة التي بدأت فيها بعد احتلال 2003، حيث وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما يعترف به حتى المشاركون فيها، بل والمتحمسون لاستمرارها، رغم تعثّرها وفشلها، خصوصاً أن كلّ طرف يرمي المسؤولية على الأطراف الأخرى، علماً بأن منتفضي تشرين 2019 يضعون المسؤولية كاملة على المشاركين وكلّ حسب حجمه ودوره ونفوذه، دون نسيان العامل الخارجي، ولاسيّما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإيران، التي يمتدّ نفوذها إلى العمق العراقي وغيرها من القوى الإقليمية والدولية. خلال السنوات التسع عشرة ونيّف الماضية أُجريَت خمسة انتخابات في عام 2005 و2010 و2014 و2018 ثم في عام 2021، لكن قاعدة العملية السياسية بدلاً من التوسّع زادت ضيقاً وانحساراً ولا جدوى، حتى أن المشاركة في الانتخابات في الدورتين الأخيرتين كانت محدودة جداً ووصلت إلى أقل أو أكثر بقليل من 20% حسب التقديرات المتشائمة والمتفائلة على حدّ سواء. في 15 أكتوبر 2021 أجريت آخر انتخابات، لكن استكمال المراحل التنفيذية بعد اختيار رئيس البرلمان لم يتم حتى الآن، والمقصود اختيار رئيس الجمهورية الذي سيكلّف رئيساً للوزراء بتشكيل الوزارة التي يتمّ عرضها على البرلمان لنيل الثقة أو حجبها. وحسب الدستور النافذ المادة 76 “يكلّف رئيس الجمهورية مرشّح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية”، وبما أن الأمر لم يتم، فقد استمرّ الوضع الاستثنائي منذ ما يزيد عن 7 أشهر وما يزال بسبب تقديم كل من الإطار التنسيقي والتيار الصدري قوائم تشير إلى كونها الكتلة الأكبر نيابياً، ولم يتم البت فيها نظراً للطعون المقدّمة، خصوصاً الالتباس حول مفهوم الكتلة الأكبر، أي قبل الانتخابات أو ما بعدها باتحاد قائمتين أو أكثر. واستمرت فرق الشيعية السياسية بالتنافس والسعي لتشكيل حكومة، بتحالف من خارجها ومن داخلها، لكنها لم تفلح حتى الآن، علماً أن السيّد مقتدى الصدر منح قوى الشيعية السياسية المنافسة له مدّة شهر واحد لتشكيل الحكومة، وقال في آخر تصريح له سيكون لنا موقف آخر إن لم يتم التمكّن من تشكيل الحكومة. والاختلاف بين وجهتين، فالتيار يدعو إلى حكومة أغلبية وطنية (ولكن بتحالف الكرد والسنة أي العودة إلى المربّع الأول مع تغيير طفيف لجزء من الشيعية السياسية بدلاً من تمثيلها الكامل)، والإطار الذي يدعو إلى حكومة توافق دون عزل القوى الكبرى (وهو كذلك عودة إلى المربّع الأول).
وهكذا ما تزال العصي قويّة ومعطّلة في دواليب العملية السياسية، والشارع يغلي بسبب شح الخدمات الطبية والتعليمية وارتفاع نسبة البطالة، فضلاً عن النقص الحاد والمعتّق في الكهرباء وأزمة المياه المستفحلة، التي زادتها أزمة القمح بسبب انفجار الأزمة الأوكرانية، ورغم واردات النفط التي بلغت 115 مليار دولار هذا العام وارتفاع أسعاره، فإن الحالة الاقتصادية تزداد تدهوراً والوضع المعيشي يزداد سوءا، حيث لجأت الحكومة إلى تخفيض سعر الدينار أمام الدولار، والأمر يشمل المعضلات السياسية المتراكمة بين الحكومة الاتحادية والإقليم حول النفط والمنافذ الحدودية والرواتب، ناهيك من التنازع حول عائدية بعض المناطق المختلطة، إضافة إلى ما تعرّض له المسيحيون والإيزيديون وبقية المجموعات الثقافية من استهدافات طالت وجودهم ومستقبلهم، حيث اتسع نطاق الهجرة على نحو شديد. وحتى لو تشكّلت الحكومة من أي من الفريقين أو بتعاونهما، فماذا يمكن أن تنتج في ظلّ نظام أسّس على المحاصصة ( رئيس الجمهورية: من حصّة الكرد ورئيس الوزراء: من الشيعية السياسية ورئيس البرلمان: من السنية السياسية). وهكذا تستمر خريطة التقسيم والفرز من الأعلى إلى الأدنى، حيث تتكرّس هذه الحالة بتعويم الوحدة الوطنية والإرادة السياسية الموحّدة، خصوصاً في القضايا الحاسمة والأساسية، الأمر يضع الباحث أمام ثلاثة احتمالات كما تقول الدراسات المستقبلية.
الأول ـ استمرار الوضع على ما هو عليه دون تغيير يذكر، وهذا سيكرّس الانسداد السياسي ويعمّق محتوى الأزمة وقد يقود إلى الانفجار.
الثاني ـ تحسّن الوضع ولو ببطء وبالتدرّج، الأمر الذي يحتاج إلى تفاعل الإرادات السياسية والتخلّص من النظام المحاصصاتي، وهذا يتطلّب تعديلات جوهرية في الدستور لإزالة الألغام منه وتحديد المعاني والمباني بنحو واضح، خصوصاً علاقة بغداد بأربيل، ناهيك من اعتماد مبادئ المواطنة والمساواة الأساس في علاقة المواطن بالدولة. إذْ لا مرجعيّة ينبغي أن تعلو فوق مرجعية الدولة، خصوصاً باعتمادها حكم القانون.
الثالث ـ تدهور الوضع وقد يقود ذلك إلى احترابات وتصدعات في الوحدة الوطنية، وهو ما كان الرئيس جو بايدن قد دعا إليه تحت عنوان الفيدراليات التي هي أقرب إلى دوقيات أو كانتونات شبه منفصلة، بإقامة الحدود فيما بينها وتحديد هويّات المرور (أقرب إلى جوازات سفر) ووضع قوّة فاصلة لمنع الاحتراب، وهو المشروع الذي قدّمته إلى الكونغرس عام 2007، وهذا عملياً يعني تقسيم العراق وإن كان على مراحل ووفقاً للأساس الإثني ـ الطائفي، الأمر الذي قد يقود إلى عمليات تطهير جديدة دينية/ طائفية وعرقيّة، ولعلّ استمرار الحال على ما هو عليه، خصوصاً عدم الثقة بين المجموعات السياسية سيؤدي إلى أن يصبح الأمر الواقع واقعاً.

*أكاديمي وحقوقي عراقي

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى