صلاح مخلوف: نحن وهم… جثاميننا وجثامينهم، حياتنا وحياتهم

صلاح مخلوف 24-10-2025: نحن وهم… جثاميننا وجثامينهم، حياتنا وحياتهم
بعد مقتلة السابع من أكتوبر، وعلى مدار عامين من الذبح المتواصل لشعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، وما حملته من مشاهد القتل والدمار، نبشت الذاكرة الفلسطينية حكايات الأجداد عن الإجرام الصهيوني، تلك التي ما زالت عالقة في الوجدان ولم تسقط بالتقادم، لأن استمرارية حياة الفلسطيني على هذه الأرض تعني استمرارية الحكاية والتاريخ معًا.
التهجير والاقتلاع، القرى والمدن المدمَّرة، وروايات القتل والصلب والمجازر، والنزوح واللجوء، والضعف العربي، والمؤامرة الدولية، كلها طافت على سطح السابع من أكتوبر لتعيد لذاكرتنا النكبة والنكسة وحرب بيروت والانتفاضتين الأولى والثانية ومؤتمرات السلام. فحياة الفلسطيني في صراعه مع الاحتلال لا تخرج عن هذه المسميات التي ما زلنا ندور في فلكها.
نحن وهم… في عقليتهم الباطنية وسلوكهم الظاهر:
ثمة مظاهر ومسميات لا تختبئ تحت ركام البيوت المهدمة أو تحت الرمال، ولا يمكن إحصاؤها مثلما نحصي جثث الشهداء وأعداد الجرحى والأيتام، فهي خفية عن الإعلام والتحليلات التي عجّت بها المنصات طوال فترة المقتلة، مع أنها تلازم تاريخ قضيتنا. إنها مظاهر العلو والاستكبار ونقاء العِرق؛ أبناء الحضارة في نظر أنفسهم، وملهمو الشعوب، وبأيديهم – كما يزعمون – تُعمر الأرض وتنتشر الإنسانية، وفي المقابل هناك شعوب “عالة على الحضارات”، لا قيمة لوجودها، فوجودها لا يقل عن وجود الجماد أو الحيوان، وحياتها – بحسب زعمهم – تعيق النمو والازدهار، فمكانها الطبيعي الجحيم والموت.
هذا ما عبّر عنه مستشرقو الاستعمار في رسم الصورة النمطية للإنسان العربي والشرق في العقلية الغربية. قال المستشرق الفرنسي إرنست رينان (Ernest Renan) في أحد خطاباته بجامعة السوربون عام 1883: “إن الإسلام هو أكبر عائق أمام تقدم الإنسانية، وإن العربي لا يعرف معنى العلم لأنه بطبيعته يميل إلى الخرافة والعنف.”
أما المستشرق الإنجليزي روديارد كبلنغ (Rudyard Kipling)، فقد عبّر عن جوهر الفكرة الاستعمارية في مقولته الشهيرة: “عبء الرجل الأبيض هو أن يتحمل مسؤولية تربية الشعوب المتوحشة وتعليمها الحضارة.”
وقد لخّص المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد هذه الرؤية في كتابه الاستشراق بقوله: “الشرق في المخيلة الغربية ليس واقعًا جغرافيًا فحسب، بل هو بناءٌ ذهنيٌّ صنعه الغرب ليؤكد من خلاله تفوقه الثقافي والحضاري ويبرر سيطرته السياسية.”
هذا العلوّ والاستكبار ما زالت مخالبه وأنيابه تُغرس في الجسد الفلسطيني عبر غطرسة ما يسمى “الدول العظمى” بنظرتها الاستشراقية التي تغذت عليها الصهيونية، فتبنّت أفكارها وسخّرتها ضد الشعب الفلسطيني الواقع بين فكّي الاستكبار العالمي الداعم لكيانه الوظيفي، وأنْياب الصهيونية التي تنهش الجسد الفلسطيني وتترصّد الجسد العربي بأسره.
قال الحاخام الصهيوني إبراهام كوك (Abraham Kook)، وهو من أبرز المرجعيات الدينية للحركة الصهيونية: “روح إسرائيل أسمى من روح باقي الأمم، لأن الفرق بين روح اليهودي وغير اليهودي أكبر من الفرق بين روح الإنسان وروح الحيوان.”
وفي تصريح آخر للحاخام أوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحركة شاس الدينية: “الغير يهود خُلقوا لخدمة اليهود، إنهم مثل الحمير، خُلقوا ليعملوا ويريحوا شعب الله المختار.”
أما عن نظرتهم للفلسطينيين تحديدًا، فقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن: “الفلسطينيون ليسوا بشرًا، إنهم حيوانات تسكن في جحور.”
وقال الحاخام إيلي بن دهان، نائب وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق عام 2013: “الفلسطينيون ليسوا بشرًا، بل حيوانات بأشكال بشرية.”
هذه التصريحات تعبّر عن عقلية عنصرية ترى الفلسطيني “كائنًا أدنى”، لا يستحق الحياة أو الكرامة، وهي النظرة نفسها التي ورثها الفكر الصهيوني من العقلية الاستعمارية الأوروبية التي صنّفت الشعوب حسب الأعراق.
ممارساتهم تجسّد قناعتهم الفكرية والعقائدية:
لم يكن الركام في غزة مجرد بقايا منازل مهدمة، بل مقابر جماعية صامتة لآلاف الأرواح التي دُفنت تحت الأنقاض دون وداعٍ أو جنازة. عشرات العائلات ما زالت تبحث بأيديها العارية عن أبنائها المفقودين، بين غبار الإسمنت ورائحة الموت.
في كل شارعٍ مدمر، تجد فلسطينيًا يحفر التراب بأصابعه لعلّه يعثر على يدٍ صغيرة أو بقايا وشاحٍ لطفلٍ كان ينام في حضن أمه حين سقط الصاروخ.
الآليات الثقيلة لا تصل إلى معظم المناطق، والإمدادات معدومة، والجيش الإسرائيلي يمنع فرق الإنقاذ أحيانًا من الدخول، فيبقى الموتى تحت الركام أيامًا طويلة حتى تتحلل أجسادهم.
هذا المشهد اليومي لم يحرّك ضمير العالم الذي يدّعي الدفاع عن “الإنسانية”، وكأن الفلسطيني الميت لا يستحق حتى أن يُنتشل من تحت بيته.
حين قُتل جنودٌ إسرائيليون في غزة، تحوّلت جثثهم إلى قضية دولية تتصدر العناوين وتستنفر العواصم، وتُعقد لأجلها المؤتمرات والوساطات. لم تكن المسألة إنسانية بقدر ما كانت انعكاسًا لمكانة “الجسد الإسرائيلي” في الوعي الغربي؛ جسدٌ يُعامل كرمزٍ للمدنية والتفوّق، وكأن موته يهدد النظام الأخلاقي للعالم.
فتحت الحكومات الغربية أرشيفها الاستخباري وسخّرت أقمارها الصناعية لتحديد مواقع القتلى الإسرائيليين، وأرسلت بعثات إنسانية تحت غطاء “استعادة الجثامين”. تحركت أمريكا وأوروبا بكل قوتها السياسية لتعيد “رفاتًا”، بينما عشرات آلاف الجثث الفلسطينية ما زالت مطمورة تحت الركام بلا اسم ولا رقم.
لم يسأل أحد عن الأطفال الذين تحللت أجسادهم في أنقاض بيوتهم، ولا عن النساء اللواتي ما زلن تحت الردم منذ شهور، ولم تُقم الأمم المتحدة لجنةً واحدة لتحديد مواقع المقابر الجماعية في غزة.
أما الأحياء في السجون الإسرائيلية، فليسوا بأفضل حال.
الأسرى الفلسطينيون يعيشون عذاباتٍ تفوق الوصف؛ تُسحب حقوقهم الأساسية، يُعزلون عن العالم الخارجي، يُحرمون من العلاج، ويتعرضون للإهانة الممنهجة.
منذ حرب الإبادة في غزة، شددت إسرائيل إجراءاتها العقابية داخل السجون، فقلّصت الطعام والماء، وألغت الزيارات، وأطفأت الضوء في الزنازين لتجعل الليل والنهار سواء.
يُروى أن بعض الأسرى أمضوا شهورًا وسنواتٍ في الزنازين الانفرادية لا يرون فيها سوى الجدران الأربعة، يُسحبون إلى التحقيق مكبّلين، وتُمنع عنهم أبسط مقومات الكرامة.
أما الأطفال الذين اعتُقلوا في الضفة وغزة فيواجهون مصيرًا أكثر قسوة؛ يُجبرون على التوقيع على اعترافاتٍ بالعبرية التي لا يفهمونها، ويُحاكمون في محاكم عسكرية.
ورغم هذا كله، لا يلتفت الغرب إلى تلك القصص، ولا يجد فيها مادةً للشفقة أو الإنسانية. فالأسير الفلسطيني لا يُقدَّم في نشرات الأخبار كـ”رهينة” أو “ضحية”، بل كمجرمٍ خطر، بينما يُقدَّم الأسير الإسرائيلي كرمزٍ للبراءة والإنسانية.
فحين أُسر جنودٌ إسرائيليون في غزة، استنفرت الدول الكبرى، وفتحت العواصم الغربية قنواتها الدبلوماسية والإعلامية، وجُنّدت المؤسسات الدولية للمطالبة بإطلاق سراحهم. تحركت الأقمار الصناعية، وهرعت الوفود الأممية، وكأن البشرية كلها اختُزلت في تلك الوجوه الإسرائيلية.
وفي المقابل، لم يسمع أحد أنين آلاف الأسرى الفلسطينيين، ولم تتحرك الأمم المتحدة لزيارة سجونهم، ولم يُستدعَ السفراء لبحث مصيرهم.
هذا التناقض الفاضح ليس مجرد ازدواجية في المعايير، بل تجسيد لعقيدةٍ قديمة في الفكر الغربي والصهيوني: أن الجسد الغربي – أو الإسرائيلي – أنقى وأعلى قيمة من جسد “الآخر”.
إنها النظرة ذاتها التي عبّر عنها المستشرقون حين وصفوا العربي بأنه “جسد بلا روح”، وكرّرها قادة الصهيونية حين قال بن غوريون إن “الفلسطيني الجيد هو الميت الذي لا يُرى”.
من هنا نفهم كيف تُعامل جثة الإسرائيلي كرمزٍ مقدّسٍ يستحق الإنقاذ والتكريم، بينما يُعامل الفلسطيني الميت كرقمٍ زائد في معادلة الحرب، يُمحى كما تُمحى صورته من الشاشات. العالم الذي هرع لاستعادة جثث الإسرائيليين من غزة، لم يحرّك ساكنًا لانتشال الفلسطينيين من تحت الركام. لأن المسألة ليست إنسانية، بل عِرقية.في ميزان الاستكبار العالمي، هناك موتٌ يستحق التضامن، وموتٌ يُعتبر طبيعيًا، كأن الفلسطينيين خُلقوا ليموتوا بصمت.
رغم كل ما يحمله الاحتلال من قهرٍ وإذلال، بقي الفلسطيني يرى في أسراه وشهدائه عنوان فخرٍ لا خزي، ومصدر اعتزازٍ لا ضعف. فالأسرى في الوعي الشعبي ليسوا مجرمين كما يصوّرهم الصهيوني والغرب، بل هم رموزُ كرامةٍ ومقاومةٍ وصبرٍ على طريق الحرية. أما الشهداء، فهم شهادةُ الشعب على صدق انتمائه لأرضه، ووقوده في معركة التحرر والاستقلال.
وبينما يسعى بن غفير وأمثاله إلى إذلال الفلسطينيين وإهانة رموزهم، فإن ما يجهلونه أن هذا الشعب يحوّل الألم إلى قوة، والجرح إلى راية. فكل قيدٍ يلفّ معصم أسير هو وعدٌ بالتحرر، وكل دمٍ يُسفك هو بذرة حياةٍ جديدة. لأن الفلسطيني ببساطة لا يستسلم، ولا يرى في الظلم نهاية، بل بدايةً أخرى للنضال حتى يستعيد وطنه.
المراجع
Samuel P. Huntington — The Clash of Civilizations? (1993)
PDF Grip+2diplomacy.edu+2
Bernard Lewis — The Arabs in History (1950)
Bernard Lewis — What Went Wrong? Western Impact and Middle Eastern Response (2002)



