صلاح مخلوف: من الإنسان الأول إلى خيام غزة: صراعٌ لا ينتهي على البقاء والأرض

صلاح مخلوف 11-12-2025: من الإنسان الأول إلى خيام غزة: صراعٌ لا ينتهي على البقاء والأرض
منذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها الإنسان على أرض فلسطين، لم تكن حياته سوى معركة بقاء مفتوحة لا تهدأ. فهذه الرقعة الصغيرة من العالم، الواقعة في قلب الطرق القديمة، لم تعرف في أي عصر من العصور هدوءاً كاملاً، ولم تمنح سكانها رفاهية العيش دون صراع. منذ عصور ما قبل التاريخ كان الإنسان الفلسطيني يواجه الطبيعة القاسية، يتعامل مع موجات البرد والحر والجفاف، ويصارع الحيوانات المفترسة، ويتنقل بين الكهوف والسهول بحثاً عن الماء والغذاء والأمان. ومع ذلك، لم يغادر هذه الأرض، لم يهرب منها، بل بقي فيها وصنع فوقها أدواته الحجرية الأولى، وصنع حضوره الأول الذي سيتحول لاحقاً إلى جذور تاريخية تمتد آلاف السنين.
وحين تطورت الحياة إلى العصر الحجري الحديث، دخل الإنسان الفلسطيني مرحلة جديدة من الصراع، ليس فقط مع الطبيعة، بل مع المجموعات البشرية الأخرى التي كانت تحاول السيطرة على الموارد. ومع ذلك، تمكن من بناء القرى الأولى، وابتكار أدوات الزراعة، وتدجين الحيوانات، حتى أصبحت فلسطين واحدة من المناطق التي شهدت البدايات الأولى للحضارة الإنسانية. ومع ظهور المدن الكنعانية، بدأ الوجود الفلسطيني يأخذ شكله الواضح، حضارة قوية تشارك في التجارة، وتواجه التوسع المصري والبابلي والحثي، وتتعلم من الصراع كيف تثبت القدم وتعمق الجذور. لم يكن الكنعانيون مجرد شعب عاش في الظل، بل كانوا قوة محلية صمدت أمام أعتى الإمبراطوريات، وحافظت على وجودها رغم الحملات العسكرية، مما يثبت أن معركة الوجود كانت في صلب تكوين الإنسان الفلسطيني.
هذا التاريخ الطويل من الصراع يعكس مجموعة من النظريات التي تفسر كيف تبقى الشعوب وكيف تستمر رغم قوة العواصف التي تضربها. فالهوية الجمعية، التي يكوّنها الشعب عبر ذاكرته الطويلة وتجربته المشتركة، كانت أساس صمود الفلسطينيين، إذ ربطتهم الأرض برباط يتجاوز الزمان ولا يسمح بالانفصال. ونظرية البقاء الثقافي توضح أن الشعوب التي تمتلك تراثاً عميقاً لا تختفي بسهولة، بل تتحول وتتكيف وتحمل روايتها معها أينما ذهبت. وهذا ما حدث للفلسطينيين الذين تمكنوا من نقل ثقافتهم ولغتهم وموروثهم حتى في أشد لحظات التشرد والتهجير. كما أن نظرية الصراع الوجودي تفسر طبيعة المعركة التي يخوضها الفلسطيني ليس على الموارد أو السياسة فحسب، بل على الحق في الحياة ذاته، في مواجهة مشروع استيطاني يهدف إلى نزع الإنسان من أرضه واستبداله بآخر. أما نظرية الجغرافيا السياسية فتشير إلى أن موقع فلسطين، الذي يتوسط ثلاث قارات ويطل على ساحل مهم، جعلها تاريخياً هدفاً لكل القوى الكبرى، وهو ما جعل سكانها أكثر قدرة على التكيف والصراع والتشبث بالأرض. وإلى جانب ذلك، تفسر نظرية رأس المال الاجتماعي كيف ساعدت الروابط العائلية والاجتماعية الفلسطينيين على الصمود، فالتكافل والتماسك الداخلي كانا على مرّ التاريخ سلاحاً فعالاً ضد كل محاولات التفكيك.
وحين ننظر إلى الواقع الحالي، نجد أن معركة الوجود لم تتغير كثيراً في جوهرها، وإن تغيرت أدواتها. في غزة، يعيش الناس واحدة من أقسى التجارب الإنسانية في العصر الحديث. الخيام تغرق مع أول مطر، البرد يهاجم الأطفال، والوحل يغطي الأقدام، والمطر يدخل على العائلات من كل جانب. لا توجد أودية كافية لتصريف المياه، ولا بنية تحتية تحمي النازحين، فتتحول الليلة الماطرة إلى معركة حياة أو موت. أم تهرب بأطفالها من خيمة إلى أخرى، رجل يحاول جاهدًا رفع المياه بعيداً عن نوم أطفاله، وآلاف ينتظرون إشراقة الصباح كي يعرفوا ما إذا كانت خيمتهم ما زالت قائمة أم جرفتها العاصفة. إنها صورة حديثة للمعركة ذاتها التي خاضها الإنسان الأول أمام سيول الطبيعة وعنفها، لكن الفرق أن عدو اليوم ليس الطبيعة وحدها، بل احتلال يمنع الإعمار ويضيق على الحياة.
وفي الضفة الغربية، تتجلى معركة الوجود عبر شكل آخر من القمع والقهر؛ الحواجز اليومية، اقتحامات المدن، مصادرات الأراضي، هدم المنازل، التوسع الاستيطاني، والضغط الاقتصادي والاجتماعي. الفلسطيني الذي يعمل ويدرس ويتنقل يعيش في دائرة تضييق مستمرة تهدف في جوهرها إلى تعميق الإحباط وإضعاف القدرة على التمسك بالأرض. ومع ذلك، كما قاوم الكنعانيون الجيوش الكبرى، يقاوم الفلسطيني اليوم بشكل يومي؛ يزرع أرضه، يبني بيته، يتعلم، يكتب، ويستمر في الدفاع عن وجوده رغم أن كل الظروف مهيأة لكسره.
التجارب التاريخية أيضاً تبرهن أن الفلسطينيين واجهوا عبر القرون أنواعاً من الصراع لا تختلف كثيراً في جوهرها عما يواجهونه اليوم. الإمبراطوريات القديمة حاولت السيطرة على مدنهم، والجيوش الرومانية والبيزنطية فرضت الضرائب الثقيلة والأحكام الصارمة، والغزوات الصليبية حاولت تغيير هوية المكان، والاستعمار البريطاني هيأ الأرض لمشروع اقتلاع الشعب. إلا أن النتيجة كانت دائماً واحدة؛ الشعب بقي، والهوية بقيت، والأرض ظلت مرتبطة بأهلها مهما طال الزمن.
إن معركة الوجود الفلسطيني ليست حدثاً سياسياً عابرًا، وليست صراعاً ولد في القرن الماضي، بل هي امتداد طبيعي لمعركة الإنسان الأول الذي عاش هنا قبل عشرات آلاف السنين. هذا الارتباط الطويل بالأرض، وهذه القدرة على الصمود رغم تغير الظروف، تثبت أن الفلسطيني لا يدافع عن قضية طارئة، بل يدافع عن امتداد طبيعي لوجود بشري متجذر منذ فجر التاريخ. الأرض ليست شيئاً يملكه فحسب، بل هي امتداد روحي وجسدي له، وذاكرة أجداده، وحكاية صموده. لذلك فإن الصراع الذي يعيشه اليوم هو صراع وجود لا يمكن فصله عن تاريخ طويل من البقاء رغم كل التحديات.
وهكذا، تمتد قصة الفلسطيني من إنسان عاش في الكهوف وواجه المناخ والحيوانات المفترسة، إلى إنسان يعيش في خيمة في غزة تقاوم المطر، أو في بيت في الضفة يقاوم التضييق والاستيطان. إنها نفس الحكاية، ونفس المعركة، ولو تغيرت الأزمنة والأعداء. ما بين الإنسان الأول والفلسطيني المعاصر خيط واحد: الإرادة التي لا تنكسر، والجذور التي لا تُقتلع، والصراع الذي لا يزال—وسيبقى—معركة وجود وارض وهوية.



