صلاح مخلوف: الصدمة الجماعية وتنامي الوعي الوطني الفلسطيني بعد كارثة غزة

صلاح مخلوف 1-11-2025: الصدمة الجماعية وتنامي الوعي الوطني الفلسطيني بعد كارثة غزة
تُعدّ الصدمات الجماعية من أكثر الأحداث تأثيرًا في تشكّل الوعي الجمعي للشعوب، إذ تتجاوز كونها مجرد لحظات من الألم إلى أن تكون محطات لإعادة بناء الهوية والذاكرة السياسية. وفي الحالة الفلسطينية، شكّلت الكارثة التي حلّت بقطاع غزة منذ حرب السابع من أكتوبر 2023 إحدى أعمق الصدمات في التاريخ الفلسطيني الحديث، حيث امتزجت الخسارة الإنسانية بالدمار المادي والتهجير والمعاناة النفسية، لتُعيد صياغة العلاقة بين الفرد الفلسطيني ووطنه وهويته الجمعية.
يُعرّف عالم الاجتماع جيفري ألكسندر (Jeffrey C. Alexander) الصدمة الجماعية بأنها حدثٌ يخلّف جرحًا في الوعي الجمعي ويهدد الأسس الرمزية للهوية، غير أن المجتمعات قادرة على تحويل هذا الجرح إلى رأسمال رمزي لإعادة إنتاج الذات من خلال عملية “إعادة سرد” الحدث بما يخدم استمرارها التاريخي.¹ وفي السياق ذاته، يرى المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي أن الأزمات الكبرى تتيح للمجتمعات أن تنتقل من الوعي التلقائي إلى الوعي التاريخي والسياسي، حين تُسقط الأقنعة الأيديولوجية القديمة وتكشف طبيعة الصراع البنيوية.²
انطلاقًا من هذين المنظورين، يمكن القول إن الكارثة التي لحقت بغزة مثّلت نقطة انعطاف في الوعي الوطني الفلسطيني. فعلى الرغم من عمق الألم والدمار، إلا أن التجربة المأساوية كشفت عن تجذّر الهوية الوطنية واستعادتها لطابعها الجمعي، بعد أن كانت قد تأثرت بفعل الانقسام السياسي والاغتراب المكاني بين مكونات الشعب الفلسطيني. فالمجازر التي بثّها الإعلام، وصور العائلات التي أُبيدت، ودمار المخيمات والأحياء، كلّها لم تُحدث فقط حالة من الحزن، بل أطلقت موجة من الوعي الوجودي الفلسطيني الذي أعاد تعريف معنى “الوطن” بوصفه مساحة من الانتماء التاريخي والكرامة والحق في الوجود.
لقد وحّدت الحرب وجع الفلسطينيين في الضفة وغزة والشتات، وأعادت صياغة إدراكهم المشترك بأن الصراع ليس سياسيًا فحسب، بل صراع على البقاء والهوية. هذه اللحظة الصادمة أعادت كذلك تعريف العلاقة مع الآخر، إذ بات الفلسطيني يرى ذاته جزءًا من سردية المقاومة التاريخية، لا مجرد ضحية. وكما يشير إدوارد سعيد، فإن الذاكرة في سياقات القهر والمنفى ليست مجرد تذكّر، بل فعل مقاومة ضد النسيان المفروض.³ ومن هنا، تحوّلت الصدمة من جرح مفتوح إلى ذاكرة نضالية، ومن معاناة جماعية إلى منبع وعي وطني جديد.
وبذلك، يمكن القول إن الصدمة الكارثية التي عاشها الفلسطينيون في غزة لم تُضعف الهوية الوطنية، بل عمّقتها وأعادت صقلها. فالمجتمع الذي واجه الفناء، أعاد اكتشاف ذاته من خلال معاناته، وتحوّلت الحرب من تجربة تدميرية إلى عامل تعبئة رمزية وتاريخية. إنّ الفلسطيني الذي شهد الكارثة لم يخرج منها مجرد ناجٍ، بل شاهدٌ واعٍ على ضرورة استمرار الرواية الوطنية ومقاومة محاولات المحو والإنكار.
المرجع :
Jeffrey C. Alexander, Cultural Trauma and Collective Identity (Berkeley: University of California Press, 2004).
Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks (New York: International Publishers, 1971).
Edward Said, Reflections on Exile and Other Essays (Cambridge: Harvard University Press, 2000).



