ترجمات أجنبية

صاندي تايمز: مقابلة مع هنري كيسنجر

صاندي تايمز ١٤-٦-٢٠٢٢م مقابلة أعدها المؤرخ نيال فيرغسون

كيسنجر رجل الدولة العريق بلغ التاسعة والتسعين في 27 أيار/مايو، ولد في ألمانيا في ذروة التضخم الكبير الذي كانت تشهده جمهورية فايمار، ولم يكن قد بلغ العاشرة عندما وصل هتلر إلى السلطة وكان في سن الـ 15 عاما عندما هربت عائلته إلى نيويورك. وغادر منصبه كوزير للخارجية منذ 45 عاما. ومع اقترابه من المئوية، لم يفقد رجل الدولة نظرته الفكرية الثاقبة التي جعلته مختلفا عن أقرانه في المجال الأكاديمي وممارسي السياسة.
ولا يزال يكتب ويصدر الكتب حيث أصدر في الفترة الماضية كتابين. ومنذ كوفيد انتقل إلى منتجعه في كونيكتيكت حيث ساعدته العزلة على خسارة وزنه، ولكنه يمشي معتمدا على عكازة ويعتمد على آلة للسمع ويتحدث ببطء لكن عقله حاد كما هو.

ولم يفقد كيسنجر قدرته على استفزاز الأساتذة الليبراليين والتقدميين الذين يسيطرون على جامعة هارفارد التي بنى فيها سمعته كأستاذ ومفكر عام في خمسينات وستينات القرن الماضي. ويواجه كل وزير خارجية ومستشار أمن قومي (أول منصب شغله في الحكومة) خيارات بين ما هو جيد وسيء، فقد تخلى أنتوني بلينكن وجيك سوليفان عن أفغانستان لطالبان وتركوا وراءهم ألافا من الهاربين الذين عملوا مع الولايات المتحدة، وها هم اليوم يضخون كميات من الأسلحة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا، وواجه كيسنجر فيتنام وبكثير من النقد.

لكن لا شيء يلخص قدرته على الاستفزاز مثل تصريحاته الموجزة لمنتدي دافوس الاقتصادي في 23 أيار/مايو. فقد جاء عنوان تلغراف “هنري كيسنجر: على أوكرانيا التخلي عن أراض لروسيا”، بشكل أثار المحافظين الجدد الذي يعولون على انتصارأوكرانيا وتغيير النظام في موسكو واتهامات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لكيسنجر بأنه يحاول ترضية فلاديمير بوتين مثلما فعلت أوروبا مع هتلر عام 1938. والمشكلة هي أن كيسنجر لم يقل كلاما كهذا وكل ما قاله أن تسوية دبلوماسية يجب أن تشمل العودة إلى “الخط الفاصل (بين روسيا وأوكرانيا يجب أن يكون عودة للوضع الراهن”، أي وضع ما قبل 24 شباط/فبراير، وعندما كانت لوغانسك ودونستيك تحت سيطرة الموالين للروس وشبه جزيرة القرم تحت سيطرة روسيا ومنذ عام 2014. وهو ما قاله زيلينسكي في أكثر من مرة، مع أن بعض المتحدثين باسم الحكومة الأوكرانية طالبوا بالعودة إلى ما قبل 2014. وسوء فهم كيسنجر ليس جديدا، فعندما كان يحاول إقناع باراك أوباما الانسحاب من أفغانستان، قال نائبه جو بايدن للمبعوث الأمريكي ريتشارد هولبرك “علينا الخروج” و “أن نفعل ما فعلنا في فيتنام” في مقارنة مع ما فعله نيكسون، “رغم أن لدينا واجبات تجاه الناس الذين وثقوا بنا” وعلينا ألا نفعل هذا، مشيرا إلى أن نيكسون وكيسنجر فعلوا هذا ولم يحاسبا على فعلتهما.

لكن الواقع مختلف، فقد رفض نيكسون وكيسنجرالتخلي عن حكومة جنوب فيتنام، في وقت طالب معارضو الحرب عام 1968 بهذا. وكانا يريدان “سلاما وبشرف” و”الفتنمة” التي قاما بها تشبه ما تفعله الإدارة اليوم في أوكرانيا، أي توفير السلاح للبلد كي يكون قادرا على حماية نفسه بدلا من الإعتماد على الجنود الأمريكيين. ويرى فيرغسون أن اساتذة جامعة هارفارد وييل سيغضبون عندما يقرأون كتاب كيسنجر الأخير “القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية” الصادر حديثا حيث وضع نيكسون إلى جانب شارلس ديغول وأنور السادات ولي كوان يو، زعيم سنغافورة السابق ومارغريت تاتشر (التي سيغضب أساتذة كامبريدج وأوكسفورد من هذا التصنيف).

ودافع كيسنجر عن شمل نيكسون في مفهوم القيادة من خلال تفسيره لووتر غيت التي قال إن ما حدث خطير وكان يحتاج لمعاقبة وليس عزلا من المكتب. ويرى أن ووتر غيت كانت كارثة للسياسة الخارجية وتدميرا للسياسة التي صممها مع نيكسون لاستعادة زمام المبادرة في الحرب الباردة التي كانت أمريكا تخسرها “كانت لدينا خطة كبرى” و “أراد (نيكسون) وقف حرب فيتنام بناء على شروط مشرفة. وكان يريد أن يمنح التحالف الأطلنطي وجهة استراتيجية جديدة وفوق كل هذا كان يريد تجنب حربا نووية” مع الاتحاد السوفييتي، وعبر معاهدة التحكم بالسلاح. ثم كان هناك “اللغز المجهول للصين، وأعلن (نيكسون) منذ اليوم الأول أنه يريد فتح الصين. وفهم أن هذه فرصة استراتيجية وأن عدوي الولايات المتحدة في نزاع بينهما”.

في إشارة للنزاع الحدودي عام 1969 بين الصين والاتحاد السوفيتي في أعقاب الخلاف الأيديولوجي. و “باسمه أمرني بالعمل على وضع أنفسنا قريبا من الصين وروسيا أكثر من قربهما معا”، وكانت الاستراتيجية تثمر قبل ووتر غيت. وبنهاية رئاسة نيكسون حصل سلام “مشرف” في فيتنام و”قمنا بإعادة تشكيل سياسة الشرق الأوسط” من خلال طرد السوفيت ووضع أمريكا في موقع الوسيط بين العرب والإسرائيليين و”فتحنا الصين و (تفاوضنا حول حدود التسلح) مع روسيا” ولكن مشاكل نيكسون الداخلية أثرت على هذه الإنجازات حسب كيسنجر.

والصورة التي تظهر لنيكسون من كتاب “القيادة” لكيسنجر هي تراجيدية، استراتيجي ماهر قادت تغطيته عديمة الضمير لجريمة فريق إعادة انتخابه ليس إلى تدمير رئاسته والهزيمة في فيتنام فقط ولكن وضعت أمريكا على طريق الاستقطاب السياوقال إن “النزاع” “أدخل أسلوبا في الخطاب العام لم يهتم بالجوهر ولكن الدوافع السياسية والهويات، وحل الغضب محل الحوار كطريقة لمواجهة النزاعات والخلافات التي أصبحت صداما ثقافيا”.

ويرى كيسنجر أن أمريكا منقسمة اليوم أكثر مما كانت عليه في وقت فيتنام. ويعلق أن التوافق بين الحزبين في السبعينات كان ممكنا، أما اليوم فتواجه كل إدارة عدوانا مستمرا من المعارضة، وبات النقاش الحقيقي لدى اليمين الأمريكي هو شرعية القيم الأمريكية، أي قداسة الحرية الفردية والتعبير كما في الدستور. وكجمهوري منذ الخمسينات، رفض كيسنجر الحديث عن وجود عناصر باليمين تطرح أسئلة حول شرعية هذه القيم. وعلى الجانب التقدمي فإن النقاش اليوم هو عن تغيير القيم الأساسية والمبادئ وإلا فليس لدينا حقا أخلاقيا للعمل بها في المجال المحلي والسياسة الخارجية.

ماهي قدرة اي زعيم لحل هذا الوضع، وأجاب السياسي العجوز “ما يحدث عندما يكون لديك خلافات لا يمكن ردمها في أمر أو اثنين، هو إما أن ينهار المجتمع الذي لا يستطيع القيام بمهامه أو التسامي عليها”. وتساءل إن كان العدو الخارجي كاف لحل المأزق، وقال كيسنجر “هذه طريقة من الطريقة وإلا واجهت أزمة غير محلية لا يمكن التحكم بها”. ويرى كيسنجر أن القيادة اليوم باتت صعبة نظرا لوجود مجموعة من الأمور مثل شبكات التواصل الاجتماعي والنموذج الجديد للصحافة والإنترنت والتلفزيون والتي تركز اهتمام الناس على المدى القريب”.

وما يجمع القيادات الست في كتابه أنهم لم يخشو من قول الحقيقة وطرح الأفكار الخلافية وكان لديهم الوقت للعزلة والتفكير لوحدهم. و”يجب أن يكون هناك في حياة القائد وقت للتأمل” سجن السادات أثناء فترة الحكم البريطاني وعاش نيكسون ضائعا بعد خسارته السباق الرئاسي في الستينات وسجن ديغول في أثناء الحرب العالمية الأولى. وكتب ديغول “السيطرة على النفس يجب أن تصبح نوعا من العادة”.

وعن تاتشر فقد طور كيسنجر حبا واحتراما للسيدة الحديدية، ويذكر كيف ناقشها حول ما تريد عمله بعد شن حرب فوكلاند، فقالت “لن أتنازل” و “كيف تفعل يا صديقي القديم؟ وكيف تقول هذه الأمور؟”. وكانت “غاضبة” يتذكر السياسي العجوز. وعندما قال فيرغسون إن بوريس جونسون هو عكس ما يراه في القيادة، أجاب كيسنجر أن جونسون وبسياق التاريخ الإنكليزي لديه سيرة جعلته قادرا على تغيير مسار بريطانيا فيما يتعلق بعلاقتها بأوروبا. و “عادة ما يحدث أن الأشخاص الذين يتمون مهام كبيرة لا يستطيعون تطبيق الكفاءات الموجودة لديهم في تنفيذها”.

وعندما ذكر فولوديمير زيلنسكي، الرئيس الأوكراني قال “بلا شك أدى مهمة تاريخية” وقال أنه جاء من خلفية مختلفة في التاريخ الأوكراني، كونه يهوديا وكان قائد الصدفة لانتخاب الأوكرانيين له بسبب إحباطهم بقادتهم وعندما واجه التحدي الروسي عبأ شعبه وهذا هو إنجازه الكبير، والسؤال هو إن كان قادرا على “الحفاظ على هذا بصنع السلام، وبخاصة أن السلام يعني تضحيات محدودة”. وعندما سأله عن فلاديمير بوتين الذي التقاه كيسنجر عددا من المرات وعندما كان بوتين نائبا لعمدة سانت بطرسبرغ في التسعينات. وقال “اعتقدت أنه محلل عميق التفكير” و “بناء على روسيا، ككيان روحي حافظت على نفسها خلال 11 محورا من خلال جهد روحي. ولعبت أوكرانيا دورا في خاصا، وجاء السويديون والفرنسيون والألمان عبر هذه الأراضي (عندما غزو روسيا) وهزموا لأنها أتعبتهم وهذا هو رأيه”، مشيرا لبوتين. ومع ذلك فهذه الرؤية غير متناسقة مع التاريخ الأوكراني الذي ميز نفسه عن الإمبراطورية الروسية. ومشكلة بوتين، يقول كيسنجر هي أنه “يقود بلدا متراجعا” و “خسر حسه التناسبي مع الأزمة” و “لا مبرر لما فعله” هذا العام.

وذكر كيسنجر فيرغسون بالمقال الذي كتبه عام 2014 عندما ناقش فيه بعد ضم القرم ضد انضمام أوكرانيا للناتو، واقترح حياديتها مثل فنلندا وحذر من أن تكرار الحديث عن انضمامها للناتو سيقود للحرب. وعندما سئل عن توسيع الناتو قال إنه التحالف الصحيح الذي يعكس التعاون الأوروبي-الأمريكي، وهو التحالف المناسب لمواجهة العدوان عندما تكون روسيا تهديدا للعالم. و”لكن من المهم الاعتراف بأن هناك قضايا كبيرة ستظهر فيما يتعلق بالعلاقة مع الشرق الأوسط وآسيا والعلاقة مع أوروبا وأمريكا. والناتو هو مؤسسة لديه مكونات ليست متجانسة بالضرورة. وعملوا معا في موضوع أوكرانيا لأنهم يذكرهم بتهديدات قديمة وفعلوا جيدا وأدعم هذا”. و” السؤال الآن هو كيف سننهي الحرب، وفي نهايتها يجب العثور على مكان لأوكرانيا ومكان لروسيا إن أردنا ألا تتحول روسيا بؤرة صينية في أوروبا”.

وفي حوار أجراه الكاتب مع كيسنجر عام 2019 في بيجين سأله إن كنا نعيش الحرب الباردة الثانية، فأجاب أننا “على سفوح الحرب الباردة” وبعد عام قال نحن “في الممرات الجبلية للحرب الباردة”. وقال إن بلدين لديهما القدرة للهيمنة على العالم- الصين وأمريكا “وتواجهان بعضهما البعض كمتنافسين نهائيين. ويحكمان بنظامين غير متوافقين، ويحدث هذا في وقت تعني فيه التكنولوجيا حربا يمكن أن تحدث نكسة للحضارة إن لم يكن تدميرها”. وبهذه المثابة فالحرب الباردة الثانية أخطر من الأولى؟ وأجاب كيسنجر بنعم، ذلك أن كلا البلدين لديهما اقتصاديات متوازية وهو وضع لم يكن أثناء الحرب الباردة. كما أن التكنولوجيا مدمرة أكثر وبخاصة مع استخدام الذكاء الاصطناعي. ولا شك لديه أن الصين وأمريكا عدوتان. وقال إن انتظار تحول الصين لبلد غربي لم يعد استراتيجية معقولة و “لا أعتقد أن الهيمنة العالمية هي مفهوم صيني، وربما حصل وأصبحوا أقوياء، وهذا ليس في مصلحتنا”. ويعتقد أن البلدين لديهما التزامات الحد الأدني لمنع تصادم كارثي، وكان هذا محور تعليقه في دافوس ولم ينتبه إليه أحد. و”نحن في الغرب لدينا مهمة غير متوافقة، وانت بحاجة لمؤسسات دفاع قادرة على التعامل مع التحديات الحديثة. وتحتاج في نفس الوقت نوعا من التعبير الإيجابي لمجتمعنا بحيث تصبح هذه المجهودات باسم شىء ما وإلا لن تستمر. ثانيا، فأنت بحاجة لمفهوم التعاون مع المجتمع الآخر، لأنك لا تستطيع تقديم مفهوم الآن لتدميره، ولهذا فالحوار ضروري”. ولكن الحوار توقف كما يقول فيرغسون، ويجيب كيسنجر “غير التعبيرعن التلظمات، وهذا يقلقني بعمق وإلى أين نسير. وقد تحاول دول أخرى استغلال التنافس بدون فهم ملامحها الخاصة”، في تلميح للدول التي تحاول الحصول على الدعم الإقتصادي والعسكري من قوة عظمى أو أخرى و “نحن نتجه نحو فترة صعبة”. وسأل الكاتب إن كان كيسنجر ينظر لنفسه كقائد، وأجاب “عندما بدأت ربما لم أفعل” و “لكنني اليوم أنظر، ولكن ليس بالحس العام، لأنك حتى تصبح قائدا، فكل الكتب التي كتبتها هي كانت عن عنصر: كيف ستمسك بالمستقبل؟”. وربما كان متواضعا في توصيف نفسه، فقد كان مستشارا للأمن القومي وعاش فترة ووترغيت. والمهم في كتابه “القيادة” هي أن العالم بحاجة إليها وبدونها فستنحرف المؤسسات وتصبح محاكمة الأمم بلا قيمة وكارثة في النهاية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى