#أقلام وأراء

شفاء الغليل لا يصنع انتصارات .. الأحوال الفلسطينية بعد غزة – صقر ابو فخر

بقلم صقر ابو فخر
اندلعت، في يوليو/ تموز 1981 معارك عنيفة بين القوات الفلسطينية في جنوب لبنان والجيش الإسرائيلي، وتقاصفا بشدة، فيما أغار الطيران الإسرائيلي في 17/7/1981 على مقر ياسر عرفات في منطقة الفاكهاني في بيروت. وفي النهاية، توصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى وقفٍ للنار برعاية الأمم المتحدة، وزار أمينها العام، كورت فالدهايم، بيروت ليلتقي عرفات. وانتشى فلسطينيون كثيرون بالزيارة، واعتبروها نصرًا مؤزّراً يُضاف إلى “النصر العسكري” في جنوب لبنان. حينذاك، مُدّت الولائم ووُزعت الحلوى وصدحت التهاليل وزغردت النساء، غير أن ياسر عرفات كان متجهمًا، وله رأي مخالف، وقال لنا في أحد الاجتماعات الموسعة التي كان يعقدها أحيانًا: استعدّوا لمعركة قاسية مع إسرائيل. وحين مطّ بعضهم شفتيه مستغربًا، راح عرفات يشرح الموقف إن اسرائيل لن تسكت عما جرى لجيشها في جنوب لبنان، وعما جرى لها دبلوماسيًا بعد زيارة فالدهايم، وستحاول كسر يد المقاومة، وهو ما وقع في 1982. وعلى هذا الغرار، على سكان قطاع غزة، أهاليَ وفصائل ومؤسسات وجمعيات، أن يستعدوا جميعًا للمعركة المقبلة التي من العبث التنبؤ بموعدها التقريبي منذ الآن، لأن تطورات الأحوال في إسرائيل والمنطقة العربية، علاوة على تقديرات القوة، وقوة الفصائل المسلحة في غزة، هي التي ستحدّد موعد الحرب أو حتى إلغاء فكرة الحرب.

ما إن أُطلق آخر صاروخ من غزة على إسرائيل، وما إن توقفت الطائرات الحربية الإسرائيلية عن دكّ مدن قطاع غزّة بهمجية لا مثيل لها، حتى بدأت جميع الأطراف، مثل كل مرة، في عدّ أوراقها المتجمعة، فيما تحوّل الضحايا إلى مجرد أسماء في المهرجانات التكريمية، وإلى أرقام في وسائل الإعلام. وراح كل طرفٍ يتباهى بأنه حقّق انتصارًا على عدوّه، حتى أن فصائل فلسطينية لا تمتلك أسلحة بعيدة المدى صارت تتبارى في الإعلان عن قصف مجموعاتها الفدائية المواقع الإسرائيلية بغزارة. وهذه الفصائل “مهضومة” حقًا، فهي مثل عجائز الأفراح: أكل ونقار وسخرية من العروس. أما مشهد الفرح على وجوه الشبان الفلسطينيين فور توقف إطلاق النار فهو يعكس الشعور بشفاء الغليل ونشوة إيلام العدو الإسرائيلي. لكن شفاء الغليل أمر عابر، ولا يصنع سياسة. وإذا كانت الصواريخ الفلسطينية التي انهمرت على إسرائيل قد شفت غليل الفلسطينيين الغاضبين، مع أنها لم توقع غير عشرة قتلى، علاوة على اثنين من العرب، إلا أن تلك المشاعر التي لها قيمة شعبية موقتة، لا قيمة لها في القرارات السياسية لأنها، ببساطة عابرة في الزمن.
*****
حققنا انتصارات كثيرة، ومع ذلك لم نتمكّن من تحرير شبر واحد من الأرض. ألا يستدعي ذلك إعادة النظر في مفاهيمنا ومصطلحاتنا الدارجة واليومية التي لا يقيم معظمها وزنًا لحقائق الأمور ومعطيات الميدان، عسكريًا أَكان ذلك أم سياسيًا؟ لقد شنّت إسرائيل ثلاث حروب محدودة على قطاع غزة قبل انسحابها منه في 2005: حقل الأشواك (أواخر إبريل/ نيسان 2001)؛ قوس قزح (مايو/ أيار 2004)؛ أيام الندم (سبتمبر/ أيلول 2004). وفي نهاية كل عدوان كنا نخرج لنقول: انتصرنا. ثم عمدت إسرائيل إلى شن حروب متتالية على قطاع غزة، أشهرها: أول الغيث (25/9/2005)؛ سيف جلعاد (يونيو/ حزيران 2006)؛ أمطار الصيف (تطوير لعملية سيف جلعاد التي اندلعت فور اختطاف الجندي جلعاد شاليط)؛ الشتاء الساخن (27/2/2008)؛ الرصاص المصبوب (27/12/2008)؛ عمود السحاب (14/11/2012)؛ الجرف الصامد (8/7/2014)، وأخيرًا حارس الأسوار (10 مايو/ أيار 2021). وفي نهاية كل حرب، كنا نتدافع للتعبير عن الانتصار الكبير الذي تحقق. ومع ذلك لم نتمكّن من “دفش” العدو الاسرائيلي شبرًا واحدًا إلى الخلف، ولم نستطع أن نرغمه على تفكيك مستعمرة واحدة، مع أن المشهور أن يفرض المنتصر شروطه على المهزوم، وهو أمرٌ لم يتحقق ألبتة في أي حرب بالمعنى العلمي لكلمة النصر. أما الحديث اليوم عن “النصر الرباني”، فهو مثل الكلام القديم على “النصر الإلهي” في لبنان في 2007؛ إنه كلام تعبوي تماماً، وهذا الشأن جائزٌ في السياسة، وضروري أحيانًا، لكنه ينقلب مقلبًا سيئًا إذا تحوّل إلى زجلٍ بلدي وهلاهيل، وإذا أهمل أخذ الميدان في الحسبان، وموازين القوى العسكرية في الاعتبار. لقد حققنا إنجازات؟ نعم بالتأكيد. لكننا لم نحقق نصرًا.

لم تحقق إسرائيل في حرب 2021، على المستوى الاستراتيجي، أي تحوّل جد ي؛ فالأمور ظلت هي هي كما في نهاية كل عدوان. أما الفارق فيكمن في مدى التدمير وفي عدد الضحايا ومقدار الخسائر وطول أيام المعارك وشدة التقاصف. وسياسة إسرائيل العسكرية هذه في قطاع غزة مثل سياستها في سورية، ناجحة فاشلة؛ ناجحة في توجيه الضربات إلى المؤسسات المدنية والمواقع العسكرية ومستودعات الذخيرة، لكنها فاشلة لأنها لا تحقق نتائج سياسية، ولا تغيّر الواقع القائم ألبتة. وعلى غرارها، مع الفارق في الموقع، صارت سياسة حركتي حماس والجهاد الإسلامي التي يمكن إيجازها بـِ “التهدئة في مقابل التهدئة”، أي أن القتال والصمود لا يغيران الميدان البتة.
بُعيد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إسرائيل في 1977 ظهرت إلى الوجود “جبهة الصمود والتصدي” (الاسم الرسمي هو “الجبهة القومية للصمود والتصدي”). ومع مرور الوقت شاخت تلك الجبهة حتى صرنا نسميها “جبهة الصمود حتى تصدي” (أي حتى تصدأ). وفي استعادة مجازية لهذه العبارة كان ثمة صمود وتصدٍ في فلسطين في مايو/ أيار 2021: الصمود في غزة، والتصدي في الضفة الغربية والقدس الشرقية وأراضي 1948، وهذا أمر لا ريب فيه. وقد ظهرت إسرائيل في تلك الأثناء مجرّد آلة حربية تقتل كل شيء حي، وتدمّر كل ما هو معمور، فيما المنتصر الأول في تلك المعمعة هو شعب فلسطين. لكن لا ينبغي أن يغيب عن البال أبدًا أن ذلك الصمود، إن لم يتحوّل إلى أوراق سياسية رابحة، سيتبدّد. ومهما يكن الأمر، فلولا الصمود في غزة، والتصدّي في بقية المناطق الفلسطينية لما انطلق اللسان الأميركي من عقاله، وفُكّت عقدته لينطق بواقع الحال: لا بديل من حل الدولتين، وأن مصير القدس لا تقرّره إسرائيل وحدها، بل المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل. أي أن المفاوضات المباشرة صارت على الأبواب، ولن يطول أجلها أبعد من خريف 2021، إن لم تقع مفاجآت غير محسوبة، وسيكون هادي عمرو، فوق وظيفته قنصلاً عامًا لأميركا في فلسطين، المفاوض الأميركي التمهيدي في مقابل بيني غانتس ويئير لبيد من الجانب الإسرائيلي. غير أن نفتالي بينيت ويئير لبيد، ومعهما أفيغدور ليبرمان، لا يرغبون في إطلاق أي ديناميةٍ سياسيةٍ جديدة في شأن التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. ومن غير المتوقع أن تخطو حكومة بينيت -يئير أي خطواتٍ إيجابية على درب المفاوضات العسيرة، لكنها ستدير علاقاتٍ عامة تحت ضغط إدارة جو بايدن، الأمر الذي يجعل الاحتمالات السياسية المقبلة أكثر عسرًا في قطاع غزة والضفة الغربية معًا، ويتطلب مزيدًا من الواقعية السياسية، لا الغوغائية الشعبية، خصوصًا أن المخارج أمام الفلسطينيين محدودة جدًا، ولا يمكنهم كلما دقّ الكوز بالجرّة أن يعودوا إلى إطلاق الصواريخ.

لا ريب أن قضية فلسطين استعادت خلال العدوان الإسرائيلي مكانتها السياسية والإعلامية، وهو ما افتقرت إليه السياسة العامة الفلسطينية طوال عهد دونالد ترامب. لكن الخطاب الذي راح يصم الآذان بعد توقف العدوان إن كل ما كان قبل العدوان لن يكون كما هو بعده، إنما هو خطاب يُخفي في ثناياه نشازًا سياسيًا مألوفًا، لكن من المحال إخفاء الطعام تحت السرير؛ لأن الرائحة تفضح المحاولة، فالختم السياسي الفلسطيني موجود لدى منظمة التحرير في رام الله وليس في أي مكان آخر. وكل مَن يزعم إنه بات يشكل مرجعية للفلسطينيين واهمٌ جدًا، ومن المحال تحقيق طموحه هذا، لأن من شأن من يسعى نحو تلك الغاية، مستعينًا بالأصوات العالية وبالشعبوية البدائية، أن يبدّد الأوراق التي تجم عت في أيدي الفلسطينيين أخيرا، فالقائد الحقيقي ليس من يستجيب للجماهير العفوية، بل مَن يتخذ القرار التاريخي ويُقنع الجماهير، بصوابيته فتسير وراءه. وهذا الوصف لم ينطبق يومًا إلا على ياسر عرفات وحده. وها نحن نشهد في هذا السياق انتقال حركة حماس من المطالبة بالمشاركة في القرار السياسي، وهذا حقٌّ مشروع تماماً، إلى إملاء الشروط على حركة فتح، وهذا افتئاتٌ على الواقع وعلى الواقعية، علاوة على أنه انتفاخٌ سياسي مريب وغير واقعي. وقد عرضتْ حركة فتح على “حماس” تأليف حكومة توافق وطني تكون مقبولة لدى دول العالم المستعدة لإعادة إعمار قطاع غزة، فلم يتم التوصل إلى أي تفاهم في شأنها، لأن “حماس” اشترطت أن يتم تأليف المجلس الوطني خلال ثلاثة أشهر، وأن يتم تشكيل قيادة موقتة لمنظمة التحرير تضم حركتي حماس والجهاد الإسلامي بأرجحية على الفصائل المعروفة، وأن يأتي الرئيس محمود عباس إلى القاهرة لحضور اجتماعات الفصائل فيها. وتلك الشروط الثلاثة مستحيلة وعبثية وغير مممكنة، وهو ما أدّى إلى فشل اجتماع القاهرة.
ليعرف مَن يجب أن يعرف أن كعب أخيل الإسرائيلي هو الضفة الغربية والقدس على أهمية بقية مناطق فلسطين ومنها، بالطبع، غزة. هناك بالتحديد إما أن تنتصر سياسة الاستيطان ومصادرة المنازل والتهويد والضم والطرد، أو تنتصر إرادة الفلسطينيين. وبحسب مفاهيم الأمن الاسرائيلية، لا تشكل غزّة تهديدًا وجوديًا لإسرائيل؛ إنها مشكلة أمنية تتجدّد مرة في كل عدة سنوات، ويتم التعامل معها عسكريًا. التهديد الوجودي الفعلي يكمن في القدس والضفة الغربية بالدرجة الأولى، فهناك تجري المواجهة المباشرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وهزيمة إسرائيل إذا كانت ممكنة إنما تتحقق هناك، وليس في أي مكان آخر. وصيغة ذلك النصر العتيد تعني أمرًا واحدًا، قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس العربية. وإلى أن يتحقق هذا الأمل، ليتحد الفلسطينيون في مواجهة المخاطر الكبيرة المقبلة بدلاً من “العنفصة” المستهجنة. فمن المتوقع ازدياد العنصرية الإسرائيلية، وتزايد العنف ضد الفلسطينيين، وتصاعد شراسة المستوطنين ضد السكان، وشراسة الإسرائيليين في المدن “المختلطة”. وستجري مباراة طويلة في التطرّف بين اليمين الإسرائيلي بوجوهه المتعددة: اليمين القومي واليمين الديني واليمين الوسطي. وستنتعش المجموعات الإرهابية الإسرائيلية من طراز “شبان التلال” و“بات عاين” و“أمناء جبل الهيكل” و“منظمة تدفيع الثمن”.

الخطوة الإسرائيلية المقبلة إما التقسيم الزماني للمسجد الأقصى، أي أن يأتي اليهود إلى الصلاة فيه في زمن معلوم، ويأتي المسلمون في زمن محدّد آخر، أو التقسيم المكاني على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل. وفي معمعان هذه المواجهة في القدس بالتحديد، وفي أحيائها كالشيخ جرّاح وسلوان، ثمّة من يتسلى بالدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية، وهؤلاء لا يفقهون البتة أن حل السلطة سيؤدي إلى حلول سلطةٍ أخرى في مكانها، وستدعم إسرائيل أي شخصٍ يسيطر على الضفة الغربية (منطقتا أ و ب) بذريعة تجنّب الفوضى. وعلى هذا المنوال، هناك من امتهن كتابة البيانات والمذكّرات بين الفينة والأخرى. لا بأس بذلك، لكن هذا الأسلوب ما عاد نافعًا ألبتة. لقد انتهى منذ زمن بعيد العهد الذي كان المناضلون يسهرون فيه على طباعة البيانات السياسية على ورق الحرير (ستانسل) والمسحوبة على الرونيو قبل أن يرموها في الليالي تحت أبواب المنازل والمحال التجارية. وانقضى الزمن الذي كانت المنظمات تستاق الناس إلى مقر الأمم المتحدة كلما أرادت تلك المنظمات أن تعبّر عن احتجاجها على أي شأن سياسي. لنتخيل أن بعضا اليوم، في عصر الإنترنت، يوزّع منشوراته من تحت الأبواب المغلقة في الليالي الحالكة. سيكون المشهد مضحكًا وبلا جدوى. وعلى هذا الغرار، مع الفارق في التشبيه، جاء البيان الذي يطالب بتنحية الرئيس محمود عباس، وهو المنتخب بـ 66% من أصوات الشعب الفلسطيني، ومع أنّ لي بين موقعي ذلك البيان أحبابًا وأصحابًا ورفاقًا تشاطرنا أشواطًا من أعمارنا في النضال الفلسطيني، إلا أنني من موقع الصداقة والمحبة أقول إننا لو أقلنا السلطة من جميع مهماتها، وسلّمنا الموقّعين، باستثناء مجموعةٍ ليست كثيرة العدد، مقاليد السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح ومعها الهيئات والمؤسسات والصناديق والبلديات والشركات، فهل سيفلحون في إدارتها؟ وهل هم جديرون بهذه المهمة المتخيلة خصوصًا أن كثيرين، مع احترامي لهم، غير قادرين على إدارة بناية، فكيف يديرون شعبًا تحت الاحتلال؟ ولمن يريد تغيير القيادة الفلسطينية عليه أن يلجأ إلى الانتخابات، وأن يناضل من مكانه أنّى وُجد، في إنكلترا أم في الولايات المتحدة أو في غيرها من بلاد الله الواسعة، لإرغام إسرائيل على الصدوع لإرادة الفلسطينيين في إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بدلاً من إجهاضها. وهذا هو الكلام الموزون، وخلاف ذلك كلام بلا وزن.

مركز الناطور للدراسات والابحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى