أقلام وأراء

سعيد عكاشة يكتب – هل تشعر إسرائيل بالقلق من سياسة أمريكا تجاه إيران؟

أ. سعيد عكاشة  *- 21/3/2020  

على مدى التاريخ الحديث كله بالنسبة لليهود، ومنذ نشأة الحركة الصهيونية عام 1897، مرورًا بتأسيس إسرائيل عام 1948، وانتهاء بالوضع الحالي؛ كان قادة الحركة الصهيونية ومن بعدها قادة إسرائيل، على قناعة كاملة بأن تحقيق الحلم الصهيوني بإقامة دولة لليهود في فلسطين، وتأمين هذه الدولة بعد ظهورها مستقبلًا، لن يكون مضمونًا إلا بإقامة علاقة وثيقة مع إحدى القوى الدولية الكبرى والوثوق بها لمواجهة تهديدات لا يمكن لليهود (أو الإسرائيليين من بعدها) أن يتغلبوا عليها بمفردهم مهما بلغت قوتهم. وبدون الدخول في تفصيلات تاريخية طويلة باتت معروفة لكل الباحثين، يمكن القول إن الولايات المتحدة منذ ستينيات القرن العشرين وحتى اليوم باتت هي القوة الدولية الكبرى التي تراهن عليها إسرائيل في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها، ولا تكون قادرة على التغلب عليها بمفردها. لكن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع الأزمات الدولية والإقليمية التي تكون إسرائيل مشتبكة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، لا يجعل إسرائيل مطمئنة دائمًا لرهن أمنها للإرادة السياسية الأمريكية وحدها. ويُعتبر التصعيد الأخير بين الولايات المتحدة وإيران الذي تزايدت حدته بعد قيام واشنطن باغتيال “قاسم سليماني” -قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني السابق- في يناير الماضي، نموذجًا لنمطً محددً من السياسة الأمريكية الذي يشكل إزعاجًا حقيقيًّا لإسرائيل.

إيران كتهديد وجودي لإسرائيل

منذ أن تكشّفت حقائق عديدة منذ عام 2003 عن سعي إيران لتصنيع أسلحة نووية، اعتبرت إسرائيل أن هذا المسعى يمكن أن يشكل تهديدًا وجوديًّا لها، كون النظام القائم على حكم رجال الدين المتشددين في إيران منذ تأسيسه عام 1979 اعتبر نفسه مكلفًا نيابة عن العالم الإسلامي بإزالة “دولة اليهود” من الوجود، وهو واجب ديني يؤمن به السنة والشيعة معًا، ومن ثم فإن منع إيران من الحصول على “الخيار النووي” بات هدفًا استراتيجيًّا لإسرائيل. في الاتجاه نفسه، اعتبرت إسرائيل أن نجاح إيران في خلق ودعم جماعات دينية في جوارها الإقليمي (حزب الله في لبنان، حركة الجهاد وحماس في غزة، وجماعة الحوثي في اليمن مؤخرًا)، والسيطرة على صناعة القرار في سوريا والعراق؛ بمثابة تهديد لا يقل في حجمه عن سعي إيران لحيازة السلاح النووي.

لقد أدركت إسرائيل منذ البداية أنها غير قادرة بقدرتها الذاتية على مواجهة إيران في كلا الجبهتين، ومن ثم لجأت كعادتها لمحاولة توريط الولايات المتحدة في صراع ممتد معها (أي إيران)، على أمل أن تتمكن واشنطن من تقويض نظام الملالي في إيران، أو تحجيم طموحاته بمنعه من الحصول على السلاح النووي، والانكفاء داخل حدوده والكف عن سياسة دعم الميليشيات المعادية لإسرائيل في جوارها الإقليمي. غير أن السياسة الإسرائيلية -في هذا الاتجاه- سجلت فشلًا كبيرًا، فالولايات المتحدة التي منحت في البداية إسرائيل دعمًا سياسيًّا في مواجهاتها العسكرية مع حزب الله في لبنان عام 2006، وضد حركة حماس في غزة في المواجهات الواسعة التي جرت في أعوام 2009 و2012 و2014، لم تستمر في تقديم هذا الدعم طويلًا، بعد أن طالت هذه المواجهات وبرهنت على عجز إسرائيل عن حسمها بقدراتها الذاتية، حيث بادرت واشنطن للضغط عليها لتوقيع اتفاقات وقف إطلاق النار مع هؤلاء الخصوم قبل أن تحقق إسرائيل هدفها بإزالة هذه التهديدات من على كاهلها بشكل نهائي. وكان توقيع الولايات المتحدة على الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 بمثابة إخفاق أكبر للسياسة الإسرائيلية التي فشلت في البداية في إقناع واشنطن باستخدام الخيار العسكري لمنع إيران من المضيّ في مشروعها النووي، ثم فشلت ثانية عندما لم تستطع إجبار الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” على الامتناع عن توقيع الاتفاق النووي مع إيران بمشاركة القوى الكبرى الأربع وألمانيا.

الرئيس “ترامب” وسياسة مغايرة شكلًا

عبر المسار السابق من الإخفاقات الإسرائيلية لتوريط الولايات المتحدة والقوى الدولية الكبرى في مواجهة مباشرة مع إيران، بدا وصول الرئيس “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض في انتخابات عام 2016 بمثابة بارقة أمل لإسرائيل للعودة إلى محاولة دفع الولايات المتحدة لخوض معركة إسرائيل مع إيران. وقد تكون إسرائيل قد نجحت بالفعل في دفع الرئيس “ترامب” للانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في عام 2018، وتشديد نظام العقوبات ضدها. لكن سياسة “ترامب” بدت مختلفة شكلًا عن سياسة سلفه “أوباما”، لكنها من الناحية الفعلية حافظت على مبدأ الامتناع عن الاشتباك العسكري المباشر مع إيران تحت أي شرط من الشروط. فلم يُبادر “ترامب” لتوجيه ضربات مباشرة لإيران حتى وهي تقوم بضرب المنشآت النفطية لحلفاء واشنطن في الخليج في أواخر العام الماضي، وحتى وهي تهدد بمنع الملاحة في خليج هرمز منذ بداية الأزمة وحتى اليوم. وحتى بعد اغتيال الولايات المتحدة لـ”قاسم سليماني”، تمسكت الولايات بسياسة الامتناع عن المزيد من استفزاز إيران؛ فلم ترد بقوة على عمليات إطلاق الصواريخ ضد قواعدها، وقواعد التحالف الدولي المواجه لداعش في العراق والمستمر حتى هذه اللحظة، حيث صرح وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” بأن واشنطن ما تزال تدرس الكيفية التي سترد بها على هذه الهجمات!

قد تدفع السياسة الأمريكية حيال إيران حاليًّا إسرائيل للتفكير مجددًا في جدوى الاستمرار في محاولة توريط واشنطن في صراع عسكري واسع النطاق مع إيران، خاصة بعد أن مرر الكونجرس مشروع قانون يحد من صلاحيات الرئيس “ترامب” في اتخاذ قرار الحرب مع إيران، وهو ما شكل هزيمة معنوية لإسرائيل، كون الكونجرس إحدى أكثر مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة التي يمتلك فيها اللوبي اليهودي الأمريكي نفوذًا كبيرًا. إلى جانب ذلك، ينبغي لإسرائيل أن تشعر بالقلق جراء حرص إيران بدورها عن الابتعاد عن مواجهه عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة، واللجوء بدلًا من ذلك لتكتيك الضربات المحدودة حجمًا والمتتابعة بوتيرة شبه ثابته زمنيًّا ضد القواعد الأمريكية في العراق على وجه الخصوص، بهدف إجبار هذه القوات في النهاية على الرحيل من هناك. القلق الإسرائيلي من نجاح إيران في هذا المسعى يبدو مفهومًا لأسباب ثلاثة؛ الأول هو ميل الرئيس “ترامب” بشكل عام لتقليل الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، والثاني السوابق التاريخية للولايات المتحدة في الانسحاب من جبهات المواجهة ضد خصومها دون حساب للمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها حلفاؤها الذين انخرطوا معها في هذه المواجهات، كما حدث عندما تخلت عن نظام فيتنام الجنوبية الذي شاركها في الحرب ضد النظام الشيوعي في فيتنام الشمالية حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، مرورًا بتخليها عن الأكراد السوريين وتركهم يواجهون خطر التعرض للإبادة على يد تركيا، وانتهاءً بما حدث أخيرًا في أفغانستان بتوصل واشنطن لاتفاق مع حركة طالبان لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي هناك، رغم ما صرح به “ترامب” من أن هذا الاتفاق قد يقود إلى سقوط النظام الحليف لواشنطن وتولي طالبان السلطة بدلًا منه. السبب الثالث والأخير أن الولايات المتحدة أبدت استعدادًا عمليًا لمغادرة العراق بعد إعلانها نيتها القيام “بإعادة انتشار” قواتها هناك، إذ عادة ما يستخدم مثل هذا التعبير للتخفيف من وقع التعبير الحقيقي “الانسحاب”.

إن احتمالات انسحاب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط لا بد وأن تدفع إسرائيل للقلق حتى لو بقي الالتزام النظري والثابت من جانب واشنطن بأمن إسرائيل، إذ سيقع عليها وحدها (أي إسرائيل) عبء أكبر في إدارة سياسة ردع أكثر قوة تجاه خصوم ومنافسين، بعضهم يحلم بتدميرها (مثل إيران وأذرعها من منظمات عسكرية مثل حزب الله وحماس والجهاد)، وبعضهم الآخر يسعى لتحجيمها وتحويلها إلى مجرد جيتو معزول في المنطقة (مثل تركيا)، وتزداد هذه المخاطر بشكل أكبر في ظل العلاقات القوية لروسيا بكل من إيران وتركيا في الوقت الراهن. 

ويمكن أن نستشفّ مدى عمق القلق الإسرائيلي من سياسة واشنطن حيال إيران والمتمحورة حول الامتناع عن الاشتباك المباشر معها، والاستعداد المحتمل للتسليم لها بالهيمنة على العراق وعلى جزء من القرار السوري، مما كتبه المعلق العسكري الإسرائيلي “عاموس هرئيل” في صحيفة “هآرتس”، بتاريخ 16 يناير الماضي، إذ نسب إلى مصادر في المخابرات العسكرية الإسرائيلية (أمان) وجود توصية من جانبها لاستغلال التوتر القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في أعقاب اغتيال “سليماني”، لشن هجمات عسكرية مكثفة ضد إيران وأذرعها في المنطقة حتى لو كان هناك احتمال لقيام إيران وحزب الله بشن هجمات انتقامية مضادة تستهدف إسرائيل.

ولو كان هذا التسريب من جانب “هرئيل” صحيحًا، فإن تفسيره الوحيد هو أن إسرائيل ربما تفكر في توريط الولايات المتحدة في الصراع مع إيران داخل العراق وسوريا بشكل أكبر لضمان عدم انسحابها المحتمل من هناك على أساس أن واشنطن قد تتبع سياسة الانسحاب تحت شعورها بأنها تستنزف في معارك صغيرة ولكن بلا نهاية، ولكن واشنطن لن يكون بوسعها اتخاذ قرار بالانسحاب إذا ما انفجرت حرب كبرى مع إيران، سواء بادرت طهران بهذه الحرب، أو اضطرت الولايات المتحدة للدخول فيها بسبب اندلاع معركة شاملة بين إسرائيل وإيران.

* رئيس وحدة الدراسات الإسرائيلية – عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى