أقلام وأراء

سعد الدين ابراهيم يكتب هزائم أميركا من فيتنام إلى العراق وأفغانستان

سعد الدين إبراهيم 2021-08-10

كان إعلان البيت الأبيض الأميركي انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، قبل نهاية شهر أيلول 2021، إعلاناً مُهذباً بالهزيمة، بعد عشرين عاماً من محاولة هزيمة حركة طالبان، التي دبّرت أكبر هجوم على بُرجي التجارة العالمي، في قلب نيويورك، في عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، يوم 11 أيلول 2001. وكان الاعتقاد السائد في واشنطن أن الذين قاموا بذلك الهجوم هم عناصر من تنظيم طالبان الإسلامي المتشدد في أفغانستان. فأمر الرئيس جورج بوش الابن بشن غارات جوية على قواعد ومعسكرات التنظيم في أفغانستان.

ورغم ما بدا من نجاح وفاعلية تِلك الغارات، خلال الأيام والأسابيع الأولى من خريف 2001، إلا أن الأسابيع والشهور التالية أثبتت أن التنظيم مازال قوياً وفاعلاً، رغم ما أصاب كوادره وقواعده من خسائر وأضرار. وهو ما تجلى في قيام طالبان بمزيد من العمليات داخل وخارج أفغانستان، ليس فقط ضد أهداف وعناصر أفغانية، ولكن أيضا ضد أهداف وعناصر أميركية.
بل وكشفت وثائق لخطط طالبان وحُلفائها أنها تهدف إلى هزيمة أميركا نفسها، إن لم يكن في عُقر دارها، فمن خلال ذلك حول العالم. وعلى طريقة المؤسسات العسكرية المُحترفة، غلبت وجهة النظر القائلة بأن أفضل وسيلة للدفاع عن النفس هي الاستباق بالهجوم على العدو أو الخصم. فبدأت الولايات المتحدة بالفعل في إرسال قوات أميركية لدعم حُلفائها في أفغانستان، وللقضاء على حركة طالبان. وبدأت طالبان بدورها تجتذب متطوعين من بلدان إسلامية أخرى، في مقدمتها السعودية ومصر. وبدأ العالم يسمع عن أسماء مدن أفغانية مثل كابول وقندهار، وعن قادة المُجاهدين في أفغانستان، مثل الأفغاني الشيخ محمد عُمر، والسعودي أسامة بن لادن، والمصري أيمن الظواهري.
ولكن أميركا، بكل قواتها العسكرية، وثرائها الهائل، وحُلفائها الأوروبيين في حِلف الأطلنطي (الناتو) لم تستطع القضاء على تنظيم طالبان، لا في يوم، ولا في أسبوع، ولا في شهر، ولا في سنة، ولا عشرين سنة. وقد تعاقب على البيت الأبيض في واشنطن خلال تِلك السنوات خمسة رؤساء (بوش، كلينتون، أوباما، ترامب، بايدن). وتضاعفت أعداد قوات التحالف الذي تقوده أميركا، والقتلى والجرحى من جنودهم، وتكلفة الحرب في أفغانستان. وكل ذلك بلا طائل في هزيمة طالبان.
ولذلك فإن قرار الرئيس الأميركي جو بايدن الخروج من المستنقع الأفغاني، قبل نهاية شهر أيلول 2021، هو في رأينا عين الصواب، وقد أدرك الرجل أن تِلك هي أطول حرب خاضتها بلاده في تاريخها، وبلا طائل في الانتصار فيها.
وربما كان مشهد حرب مُماثلة دامت عشر سنوات في فيتنام دون بارقة أمل في الانتصار على قوات مُشابهة لطالبان، وهي قوات حركة الفيت كونغ، وضاقت دائرة الحِصار حول عِدة آلاف من قوات أميركا في سايغون، حتى أصبح قرار الانسحاب نفسه من آخر معاقل تِلك القوات في العاصمة سايغون صعب التنفيذ، إلا بواسطة طائرات الهليكوبتر، لنقلهم إلى سُفن الأسطول الأميركي السابع قُرب شواطئ فيتنام في المُحيط الهادي، وكانت صورة أخر جُندي أميركي مُعلقاً بذراعيه في طائرة هليكوبتر هو توصيف مُكثف يُغني عن ألف كلمة، إعلاناً عن تِلك الهزيمة، بعد عشر سنوات من التورط في أدغال وأوحال فيتنام.
ويبدو أن الرئيس جو بايدن، الذي كان عضوا في الكونجرس عايش وشاهد تِلك الهزيمة الشنعاء في فيتنام. وهو بالقطع لا يُريد أن يكون الرئيس الأميركي الذي يشهد هزيمة مُماثلة في أفغانستان، بعد حرب تجاوزت، في سنواتها، كل حروب أميركا منذ استقلالها عام 1776.
ومن المُفارقات أن ذلك البلد الأسبق الذي حاربت قوات مقاومته الشعبية دولة أوروبية هي فرنسا، لمدة عشر سنوات، وأجبرت كبرى قلاعها على الاستسلام في «ديان بيان فو» في ربيع 1955، ثم كررت نفس الشيء مع قوات أقوى جيوش العالم وأغنى دولة، وهي الولايات المتحدة، تُعلن أنها ستسحب آخر قواتها الميدانية من أفغانستان قبل نهاية شهر أيلول 2021. وهو إعلان مُهذب بالهزيمة لكل من أميركا وخُلفائها الغربيين، تاركين الحكومة الأفغانية لمصير شبه مجهول. من ذلك أن الجيش الأفغاني الذي درّبته وسلّحته أميركا سيواجه نفس التحدي الذي أجبر أميركا على الرحيل أو الانسحاب.
إن المُعضلة التي سيواجهها الرئيس أشرف عبدالغني وجيش نظامه هي عدم القُدرة على مواصلة المواجهة المُسلحة مع تنظيم حركة طالبان، التي تمرّست قياداتها وكوادرها على حرب الاستنزاف المُمتدة، والتي، كما ذكرنا أعلاه، أجبرت أقوى دول العالم، وهي الولايات المتحدة، على الانسحاب بعد عشرين سنة، هي أطول حروب أميركا على الإطلاق.
ولم تُضيع حركة طالبان الوقت، فهي الآن تنتقل من أسلوب الكر والفر إلى أسلوب الاستيلاء والثبات وإقامة سُلطتها المحلية في كل موقع تنسحب منه القوات الأميركية، وهو ما يعنى أن المواجهات المُسلحة في المرحلة القادمة من الصراع ستكون أفغانية- أفغانية.
وتؤمن حركة طالبان، التي أجبرت قوة عُظمى، هي الاتحاد السوفياتي، على الانسحاب دون نصر من بلادها عام 1980، وهو ما كان أحد أهم العوامل في سقوط النظام السوفياتي بعد خمسة وستين عاما في روسيا البلشفية (1914- 1980)، وها هي تُجبر القُطب العالمي الأقوى على انسحاب مُماثل دون نصر.
ورغم أن النظام الأميركي لديه مناعة داخلية ضد السقوط الذي حدث لمُنافسه السوفياتي قبل ثلاثين عاماً، إلا أن هزيمة أميركا في أفغانستان قد أضعفتها معنوياً، وتعطي الفُرصة لقوة كونية أخرى، وهي الصين، لتحديها في قيادة العالم. 

مركز الناطور للدراسات والابحاث      whatsapp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى