ريسبونسبال ستاتكرافت: اقتصاد غزة ينهار والفلسطينيون يحتاجون إلى سيولة الآن

ريسبونسبال ستاتكرافت 11-12-2025: اقتصاد غزة ينهار والفلسطينيون يحتاجون إلى سيولة الآن
بينما احتفل العالم مؤخراً باليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وبعد أيام قليلة من موافقة مجلس الأمن الدولي على القرار المدعوم من الولايات المتحدة، والذي يحدد إطاراً جديداً للأمن والحكم في قطاع غزة، ما تزال قضية مركزية واحدة من دون حل وهي الاقتصاد الذي ينهار. وبينما قد تعيد القرارات السياسية تعريف من يدير الأراضي أو من يدير الأمن، لكنَّها لا تدفع رواتب، ولا تحافظ على عمل أجهزة الصراف الآلي، ولا تسيطر على التضخم المفرط. ومن دون المؤسسات التي يقودها الفلسطينيون، والتي تسمح لها بإدارة أموالهم بشكل مستقل ومعقول، فإن الدولة الفلسطينية تخاطر بأن تصبح رمزية بحتة فحسب.
في الواقع، في غزة اليوم، السيولة ليست مسألة تقنية، بل هي جزء لا يتجزأ من ضمان البقاء. مع ذلك، في المفاوضات السياسية الأخيرة، لم يُذكر موضوع السيولة إلا نادراً، وطغت مواضيع أخرى على النقاش. ولكن ما جدوى الوعود المتعددة الأطراف ذات الطابع السياسي عندما يرتفع سعر الطحين بنسبة 5000%، أو أن تحمل ورقة نقدية من فئة 100 شيكل ممزقة، وملصقة بشريط لاصق للمرة العاشرة، وتدعو الله أن يقبلها بائع لتطعم عائلتك. وماذا لو كنت قد استبدلت بطاقة هويتك وسيلتك الوحيدة للحصول على المساعدات الإنسانية للوصول إلى جهاز صراف آلي، حيث يفرض عليك شخص آخر يائس مثلك عمولة قدرها 50% على عملية السحب؟
هذا ليس تعليقاً سياسياً، ولا يتعلق الأمر بمحادثات إعادة البناء مجردة في اليوم التالي، بل يتصل بالعواقب الإنسانية الفورية لانهيار الاقتصاد الفلسطيني. وكما أشار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، فإن عامين من الحصار العسكري دفعت بالناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني إلى مستويات عام 2003، ومحت 22 عاماً من النمو. وإذا سمح لهذا الانهيار بأن يتعمق أكثر، فسيصبح أي جهد لإعادة البناء شبه مستحيل. كما لا يمكن تأجيل الاقتصاد. والفرق كبير بين أنَّ المساعدة تعمل كحل مؤقت أو أن تصبح طوق نجاة وحيداً فقط. ولفهم مدى صعوبة التعافي بمجرد حدوث انهيار طويل، يكفي النظر إلى أوضاع سوريا.
دروس من انهيار سوريا
لا تُستحضر سوريا هنا كصورة معكوسة لفلسطين، فالأزمتان مختلفتان في السياق والشدة والجغرافيا السياسية، وتستحقان أن تعاملا كأمور منفصلة. ومع ذلك، فإنَّ سوريا هي أحدث حالة من التدهور المالي المطول، يليها دعم دولي شبه إجماعي لإعادة الإعمار. ومنذ عام 2011، انكمش اقتصاد سوريا بأكثر من 60%، في حين استهدفت العقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية مصارفها المركزية، وإيرادات النفط، وشبكاتها المالية، والجهات الحكومية الرئيسية. ومع استمرار الحرب، تشدَّدت القيود، وازدهرت الأسواق غير الرسمية، وتآكلت البنية التحتية المدنية، والتضخم المفرط أضعف القوة الشرائية، وبحلول عام 2025، فقدت الليرة السورية أكثر من 99% من قيمتها منذ اندلاع الحرب في 2011، ما ترك الأوراق النقدية شبه عديمة القيمة، وفقدت ثقة الشعب.
ولم يتحرك المجتمع الدولي بسرعة لتغيير مساره إلا بعد تغير النظام في العام الماضي، حيث بدأت عملية تخفيف العقوبات عبر الولايات القضائية الكبرى، بينما حشدت الجالية السورية في الخارج جهودها لإعادة الاستثمار، وتعهد المانحون بتقديم الدعم. وفي آب/ أغسطس الماضي، أعاد المصرف المركزي السوري تحديد قيمة الليرة، بحذف صفرين من العملة في محاولة لاستعادة ثقة الجمهور.
ومع ذلك، حتى مع التنسيق في إجراءات التخفيف والإصلاح، فإن التعافي ما يزال بعيد المنال. فالغموض التنظيمي، وهروب المستثمرين التاريخي، وتفتت الضوابط المالية تعني أن ثقة الجمهور في المؤسسات المالية لم تعد بعد كما كانت. وهذا ما يجعل الحالة السورية ذات دلالة، فهي تُظهر مدى صعوبة تحقيق التعافي، حتى عندما تُرفع القيود الاقتصادية، ويتوحد العالم خلفها. أما في فلسطين، حيث لا يوجد لا البنية التحتية ولا الدعم الدولي بالإجماع الذي نشهده الآن في سوريا، فقد تكون المهمة أشبه بمهمة مستحيلة.
يصبح هذا التباين أكثر وضوحاً عند النظر في الأدوات النقدية الأساسية التي احتفظت بها سوريا طوال فترة انهيارها.
وقد كانت سوريا تمتلك عملة سيادية، ومصرفاً مركزياً يعمل (ولو كان يحيطه الغموض)، واحتياطيات قابلة لإعادة الهيكلة، وسلطة مؤسسية لإعادة تحديد سعر العملة. وعلى النقيض من ذلك، وبسبب السيطرة الكاملة التي تفرضها “إسرائيل” على أدوات فلسطين المالية، لا تمتلك الأخيرة مصرفاً مركزياً تقليدياً، ولا عملة مستقلة، ولا سيطرة أحادية على التدفقات المالية الحكومية. وتعتمد موازنة السلطة الفلسطينية وقدرتها على دفع الرواتب على إيرادات المقاصة أو الضرائب التي تجمعها “إسرائيل” (وغالباً ما تحتجزها). ولا يمكن للاقتصاد أن يعمل إلا ضمن إطار العملات الأربع الرئيسية المتداولة، وهي الشيكل الإسرائيلي، والدولار الأميركي، والدينار الأردني، واليورو. كما لا تملك فلسطين سلطة إصدار عملة محلية موثوقة، ولا مسارات مالية حقيقية لإدارة الاحتياطيات أو أخطار سعر الصرف أو أسواق السندات.
تُجرى حالياً إعداد خطط إعادة الإعمار في غزة المقدرة بنحو 70 مليار دولار أميركي. ومع ذلك حتى مع الزيادة المتوقعة مع وجود العملات الأجنبية الأربع الداعمة لهذه الجهود، فإنَّها وحدها لا تستطيع حماية الاقتصاد من الانهيار، ولقد قامت “إسرائيل” عمداً بتقييد تحويلات الشيكل إلى الدولار الأميركي، ما أدَّى إلى فائض حول المصارف إلى مستودعات نقدية. وما تزال المعاملات بين المصارف الفلسطينية والإسرائيلية تعتمد على إعفاء إسرائيلي واحد، يحمي المصارف الإسرائيلية من المسؤولية القانونية.
وقد مُنح هذا الإعفاء، الذي كان من المقرر أن ينتهي في نهاية الشهر الماضي، تمديداً لمدة أسبوعين فقط، وهو لا يُعد حلاً دائماً بأي حال من الأحوال. ولا يُمكن لنظام مصرفي أن يعمل عندما تعتمد استمراريته على أداة سياسية تقديرية. كما لا يمكن للاقتصاد أو النظام الإنساني العمل تحت هذه الظروف، والحل الوحيد هو استقلال فلسطين وسيطرتها على نظامها المالي وعملتها الوطنية.
وفي الحقيقة في غياب الاستقلال تخاطر فلسطين بوراثة هشاشة سوريا بشكل أكثر قسوة. والحد الأدنى من الدعم المالي الذي كان لدى سوريا قبل التعافي، غير موجود أصلاً في فلسطين. والنظام المالي الذي لا يستطيع تحويل عملته القانونية الرئيسية إلى عملة أجنبية قابلة للاستخدام لا يُجمَّع بالدولار أو بسلة العملات، ويُحاصر. وقد تكون العملة السيادية القابلة للحياة علامة مهمة على الدولة واستمرارها الطويل الأمد، لكنها ليست مطروحة على المدى القصير، والمسارات المتبقية مقيدة بالسيطرة المالية الكاملة لـ”إسرائيل” على السكك المالية. لذلك، فإنَّ التوصية الأهم هي خلق آليات ومسارات مستدامة لا تتأثر بمقاطعة “إسرائيل” أو بإرادتها السياسية.
عملة الدولة الفلسطينية
في نهاية المطاف، السيولة ليست فقط شريان الحياة لدولة الغد؛ بل هي أيضاً ما يجعل المساعدات الإنسانية فعّالة اليوم. وقد يجادل البعض بأنَّ الحل يكمن ببساطة في جعل المساعدات أكثر شمولاً. ومع ذلك، لم تُصمم المساعدات يوماً لتحل محل الاقتصاد. كما يمكن للشاحنات أن تنقل الدقيق والدواء، لكنَّها لا توفر الحذاء المناسب لمقاس قدم طفل، أو أجرة الحافلة للوصول إلى المستشفى، أو الوقود اللازم للتدفئة. فالسيولة هي ما يُمكّن العائلات من الاستفادة من المساعدة الجزئية وتحويلها إلى بقاء فعلي. وهي ما يسمح للوكالات الإنسانية بدفع مستحقات الموردين، وتوظيف العاملين، والحفاظ على استمرارية العمليات. كما أنَّ المزيد من شاحنات المساعدات، أو رفع الحصار الإنساني وحده، لن يغير هذا الواقع. ويجب اتخاذ هذه الخطوات بالتوازي مع إعادة تفعيل القنوات المالية كأولوية.
ويجب على المجتمع الدولي أن يتحرك قبل أن يترسخ الانهيار. ولا يُمكن أن تبقى المعاملات الفلسطينية رهينة لإعفاء واحد، سواء كان لمدة أسبوعين أم قصير الأجل. كما أنَّ هناك ضرورة قصوى لقنوات المراسلة المصرفية البديلة، التي تُطوَّر بالتعاون مع جهات إقليمية أو متعددة الأطراف. وكذلك الأمر بالنسبة للضمانات المتعلقة بإيرادات المقاصة، حيث يُمكن لآليات الرقابة المستقلة أن تعزل هذه التحويلات عن التدخلات السياسية، وأن تمنح الجهات المانحة الثقة بأنَّ الميزانيات ستُلتزم، وأن الامتثال سيُحافظ عليه.
كذلك، يجب تفعيل هذه الأدوات لا كرد فعل على الانهيار الكامل، بل استباقاً له ومنعاً لحدوثه. وتُظهر تجربة سوريا مدى صعوبة استعادة التوازن الاقتصادي بعد فقدان البنية التحتية المالية والثقة. أما بالنسبة لفلسطين، فإن الأسس الداعمة لهذه البنية التحتية لا تزال في طور الإنشاء وبالغة الهشاشة. وإذا كان التعافي ممكناً في المستقبل، فلا بد من حماية ما تبقى من السيولة الفلسطينية في الوقت الراهن، كما يجب معالجة الأضرار الحالية بشكل عاجل لوقف المسار المتجه نحو دوامة مالية وإنسانية شاملة على مستوى الاقتصاد بأكمله.
ولتحقيق ذلك، لا يمكن لإعلان نيويورك، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المصاحب له والمؤكد عليه، أن يكون مجرد مسرح دبلوماسي. فالعلم والمقعد في الأمم المتحدة يمثلان علامات اعتراف مهمة، لكن لا يُمكن أن تستمر الدولة الفلسطينية بهذه الرموز وحدها. ويتطلب الأمر وجود المؤسسات الأساسية للحكم الاقتصادي والإدارة المالية، فلقد مُنح الفلسطينيون كثيراً من الكلمات والوعود من دون وسائل لتنفيذها. ومن دون دعم اقتصادي حقيقي، لن يكون العالم بصدد بناء دولة، بل سيكون بصدد كتابة سيناريو الانهيار المقبل.



