أقلام وأراء

رياض قهوجي: إمكان التّحول شرقاً وتبعاته رغم صعوبة الانفصال عن القوى الغربيّة

رياض قهوجي 24-2-2023: إمكان التّحول شرقاً وتبعاته رغم صعوبة الانفصال عن القوى الغربيّة 

تنادي بعض الجهات السياسية في المنطقة بالتحول شرقاً، وتحديداً نحو روسيا والصين، بدل الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وسيلةً لتحقيق استقلالية سياسية واقتصادية تضاعف من فرص النمو وتحسن الأوضاع الاجتماعية المتأزمة تأزماً كبيراً في أكثر من دولة.

من ناحية المبدأ يجب أن تراجع الدول خياراتها باستمرار، والتأكد من أن سياساتها الخارجية تنعكس إيجاباً على أوضاعها الأمنية والاقتصادية. فلا مانع، بل يجب على الحكومات تغيير سياساتها إن كان هذا سيأتي بفائدة على شعبها وأمنها واستقرارها. لكن يجب درس وضع الدول التي تقع ضمن دائرة نفوذ هذه القوى العالمية لمعرفة إن كانت تعيش في نعيم وأمان قبل الإقدام على أي خطوة.
سوريا هي إحدى الدول التي تقع ضمن دائرة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. فموسكو أرسلت قواتها إلى سوريا حيث تملك اليوم قاعدة جوية كبيرة وأخرى بحرية، وأنقذت النظام السوري من السقوط، وتعهدت إعادة بناء الاقتصاد السوري. ولقد أرسلت وفوداً اقتصادية من رجال أعمال روس لدرس فرص الاستثمار ووقعت على اتفاقيات اقتصادية ومالية عديدة مع سوريا. حتى إيران التي تقاسم موسكو النفوذ على أجزاء كبيرة من مناطق سيطرة النظام السوري، وقعت اتفاقيات اقتصادية ووعدت بمساعدات ومشاريع. 
لكن لا يبدو أن الوجود الروسي – الإيراني كانت له تأثيرات إيجابية في الشعب والاقتصاد. فالليرة السورية تستمر في الانهيار وقد سجلت أرقاماً قياسية. ومستوى التضخم وارتفاع كلفة المعيشة لا يزالان مستمرين من دون أي اتجاه أو قدرة على لجمهما. فروسيا لم تستطع ضخ أي أموال في الاقتصاد السوري، ولا يبدو أن الأموال الإيرانية قد أثرت كثيراً في تحسين الأوضاع. ورغم أن روسيا وإيران غنيتان بالنفط والغاز، فإن الأسواق السورية تعاني شحاً في البنزين والمازوت والغاز، وتعتمد اعتماداً كبيراً على تهريب هذه المواد عبر لبنان. فكيف يمكن لدولة من المفترض أنها حليفة لعملاقي الغاز والنفط أن يعاني سكانها نقصاً في المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها الجنوني؟ 
قد يقول البعض إن الحصار الاقتصادي والعقوبات التي فرضتها أميركا والقوى الغربية على إيران وروسيا وسوريا هي سبب تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا، وقد يكون هذا صحيحاً. لكن، كيف يمكن لدولة مثل روسيا يفترض أنها دولة عظمى كما يتم الترويج لها، أن تتأثر بهذا الشكل بعقوبات قوى أخرى؟ وهل من مصلحة أي دولة صغيرة أو متوسطة في المنطقة في هذه الحالة أن تتحول نحو روسيا وتتخلى عن القوى الغربية المهيمنة فعلياً؟ أين المصلحة بأن تضع حكومة شعبها في وضع لا يمكنها من توفير السيولة والدعم الاقتصادي لوقف التضخم وانهيار العملة الوطنية؟ هل التحالف مع روسيا وإيران جلب الأمن والأمان للدولة والشعب في سوريا؟ وعليه، كيف سيكون وضع الاقتصاد في بلد مثل لبنان وبحالته الصعبة أن يكون أفضل وينهض إذا تخلى عن علاقاته مع أوروبا وأميركا وانتقل إلى الكنف الروسي – الإيراني؟ من سيحميه من تداعيات العقوبات التي ستُفرض عليه؟ 
أما بالنسبة إلى الصين، فهي تملك علاقات جيدة مع دول الشرق الأوسط كافة، حتى تلك التي تعتبر من حلفاء أميركا وأوروبا. فهي لا تشترط أن تتخلى هذه الدول عن علاقاتها القائمة مع القوى الأخرى للتعامل معها، ولا تضع شروطاً على الاستثمار في هذه الدول حيث لها منفعة. وهي تعتمد أسلوب القوة الناعمة في توسيع دائرة نفوذها بعيداً من المشكلات والنزاعات السياسية بين دول المنطقة. لكن الصين لا تقدم مساعدات مجانية، وتكون هباتها عادة رمزية وقليلة مقارنة بما يقدمه الغرب، إما مباشرةً أو عبر صندوق النقد الدولي. أما استثمارات الصين الكبيرة فهي غالباً ما تجعل المستدين رهينة لها. فالدول الأفريقية التي قامت الصين بتنفيذ مشاريع كبيرة فيها مقابل ديون طويلة الأمد، تجد نفسها اليوم تحت وطأة دين لن تكون قادرة على تسديده، ليس أقله بوقت قريب. ورغم أن الصين لم تضع شروطاً على حكومة هذه الدولة لأخذ القرض، فهي لن تتخلى عن حقوقها وبالتالي فهي تملك اليوم نفوذاً داخل هذه الدولة وسيتضح لاحقاً كيف ستستخدم هذا النفوذ. لكن ليس هناك حتى الآن دولة خاضعة بالكامل لنفوذ الصين لمعرفة تبعات ذلك على الشعب والاقتصاد. فمعظم الدول التي تعاملت مع الصين لم تتخل عن علاقاتها مع الغرب. 
يملك لبنان، كغيره من الدول العربية، علاقات جيدة مع الصين ويستورد العديد من السلع منها، ولم يتبن أي مواقف عدائية منها. كما يملك لبنان علاقات اقتصادية مع كل من أميركا وأوروبا. إلا أن الصين لا ترسل مساعدات مالية كبيرة للبنان كما تفعل القوى الغربية. كما أن شعوب المنطقة، ومنها لبنان، تتعلم في مدارسها إما الإنكليزية أو الفرنسية، بالإضافة إلى اللغة الأم. فلا تزال الثقافة الروسية أو الصينية منعدمة انعداماً كبيراً في المنطقة. وعليه، فإن التحول نحو الصين سيتطلب فترة طويلة تشهد تغييرات كبيرة تتضمن مناهج المدارس وبرامج التسلح والنظام الاقتصادي. العملية ليست كبسة زر، بل آلية طويلة تتضمن جهداً من جانب الصين ورصد أموال لتقديم مساعدات وهبات تكسب فيها صداقة شعوب هذه الدول لتشجعها على التحول شرقاً. يجب أن يكون التغير شرقاً على مستوى الشعب (وليس فئة فقط) لينجح وليس فقط على مستوى القيادة. 
الواقعية السياسية تملي على الحكومات أن تتحالف مع القوى الكبرى القادرة على تعزيز أمنها ودعمها اقتصادياً. فالتحالف أو التقرب من القوى الدولية والإقليمية هو خطوة طبيعية من الدول الصغيرة والمتوسطة. ويجب على هذه الدول، وتحديداً لبنان، أن تعطي الأولوية لراحة شعبها، وبالتالي تكون منفتحة على التعاون مع القوى الإقليمية والدولية لتحقيق مصالحها، شرط أن لا تعرض نفسها إلى عقوبات دولية غير قادرة على تحملها، وأن لا يؤثر هذا التعاون سلباً في أمنها الداخلي ومصالحها الاقتصادية والمالية.    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى