أقلام وأراء

رفيق خوري: من يربح الحرب الباردة 2؟

رفيق خوري 30-8-2025: من يربح الحرب الباردة 2؟

بدت نهاية الحرب الباردة مجرد استراحة محارب قبل أن تبدأ حرب باردة جديدة، والسبب ليس فقط غطرسة القوة التي تمارسها أميركا المنتصرة كأن العالم حقل صيد خاص، بل أيضاً حتمية صعود الصين وروسيا. فلا شيء اسمه انتصار نهائي، وليست “نهاية التاريخ” التي عبّر عنها فوكوياما سوى “فنتازيا” مضادة للتاريخ الذي لا نهاية له.

وفي نهاية الحرب الباردة، أيام الجبارين، تصور الزعيم السوفياتي غورباتشوف أنه شريك في الربح، فاصطدم بإعلان انتصار الغرب بقيادة أميركا، ثم وجد الاتحاد السوفياتي ينهار على ساعة الرئيس جورج بوش الأب و”النظام العالمي الجديد”.

وفي بداية الحرب الباردة الجديدة تكتشف أميركا أن “إستراتيجية الاحتواء” التي اقترحها الدبلوماسي جورج كينان وصارت سياسة كل الإدارات ونجحت، هي مهمة مستحيلة مع الصين المنخرطة في النظام العالمي والدورة الاقتصادية الدولية، والمفارقة أن كينان “لم يفرح” عندما سقط الاتحاد السوفياتي، واعتبر أن “عسكرة إستراتيجية الاحتواء كانت غلطة أطالت مدة الاحتواء”، ورأى أن “توسع الغرب إلى حدود روسيا خطأ رهيب”.

أما الفوارق بين الحرب الباردة الأولى والثانية فإنها بنيوية وجوهرية وأبرزها أربعة:

الأول، الطابع الأساس للحرب الباردة الجديدة هو الصراع الجيوسياسي، بعدما كان الطابع الأساس للحرب الأولى هو الصراع الأيديولوجي، حتى الصين التي لا تزال في نظام شيوعي، فإنها تحدد الجيوبوليتيك بقول أكاديمي صيني إن “الجيوبوليتيك اليوم هو صراع من أجل البقاء بين قوى كبرى هشة وقوى كبرى صاعدة”.

والثاني، أن أميركا والصين كانتا منذ السبعينيات في القرن الماضي بعد اتفاق “ماو-نيكسون” في جبهة تواجه السوفيات، في حين أن الصين وروسيا اليوم في “شراكة بلا حدود” وجبهة في مواجهة أميركا والغرب.

والثالث، أن الحرب الباردة الأولى خلت من حروب حارة إلا في الأطراف في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، أما الحرب الباردة الجديدة، فإنها ترافق حرباً حارة في قلب أوروبا بعد هجوم روسيا على أوكرانيا ودعم “الناتو” لكييف بالمال والسلاح، وسط التلويح الروسي بالسلاح النووي، وعودة الخوف الأوروبي من موسكو الروسية أيام الرئيس فلاديمير بوتين كما كانت خائفة من موسكو السوفياتية وزحف دباباتها على القارة العجوز.

والرابع، أن السلاح الذي ربح به الغرب الحرب الباردة انتهى مفعوله ولم يعد ممكناً، فما هو هذا السلاح؟ إنه حسب سارة باين أستاذة التاريخ والإستراتيجية العظمى في كلية الحرب البحرية الأميركية، إستراتيجية “المساعدة على الانتحار” أي إفقار الخصم، وهي تسجل أنه “بعد أجيال من معاناة الروس والصينيين اقتنع القادة بأن القضاء على الفقر يتطلب التعاون مع الغرب”، وهذا صار من الماضي، فمن الوهم احتواء الصين صاحبة الاقتصاد الثاني في العالم بعد أميركا، والمنخرطة في علاقات اقتصادية مع معظم دول العالم والتي يتجاوز التبادل التجاري بينها وبين أميركا 600 مليار دولار.

وعلى رغم العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على روسيا بسبب حرب أوكرانيا، إلا أن الاقتصاد الروسي أظهر مرونة، وتعلم الروس من تجربة الإيرانيين في تهريب النفط إلى الأسواق عبر “أسطول الظل” فضلاً عن أن أرقام التبادل التجاري بين روسيا والصين صارت كبيرة جداً.

والواقع أن الحرب الباردة الجديدة مرشحة لأن تكون طويلة، والسؤال هو من يربح هذه الحرب؟ أميركا أم الصين وروسيا؟ ترمب يتخيل أن أميركا ستربحها كما ربحت الحرب السابقة، والمؤرخ وأستاذ التاريخ في معهد هوفر في جامعة ستانفورد، نيال فيرغسون يدعو ترمب إلى التعلم من الرئيس رونالد ريغان “في التنافس مع الصين لربح الحرب الباردة”، وما انطلق منه ريغان هو “السلام مع القوة” و”رفض الشيوعية كأيديولوجيا والتوسع السوفياتي كإستراتيجية”.

التأثير الكبير على الاقتصاد السوفياتي الذي فرض عليه ريغان سباق التسلح كان برنامج “حرب النجوم”، وها هو ترمب يقلده في برنامج “القبة الذهبية”، لكن المرشح الأول للتعب هو الاقتصاد الأميركي لا الصيني ولا الروسي، حتى نادي “فالداي” الروسي، فإنه يؤكد في تقرير أن “الهيمنة لم تعد ممكنة، والسعي إليها لم يعد عقلانياً”.

تقول “الإيكونوميست” إن لقب ترمب في الصين هو “جيانغو” ومعناه “بناء الأمة”، والمقصود أن ترمب “سيئ جداً لأميركا بحيث صار جيداً جداً للصين”، فضلاً عن أن “أميركا في انحطاط وأفول مما يعطي فرصة للصين في تحقيق رؤيتها حول إدارة العالم”.

وفي رأي الزعيم السابق للجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، فإن ترمب ورث عالماً أكثر عدوانية للمصالح الأميركية من الذي تركه قبل أربعة أعوام، والقوى الانتقامية لا تبحث عن الانخراط في نظام عالمي، فهي ترفض أساسه، وتأخذ قوة من ضعف أميركا، وشهيتها تزداد مع الأكل”، ومن هنا قول البروفسور مايكل كيماج “إن النظام العالمي ليس أحادياً ولا ثنائياً ولا متعدد الأقطاب”.

لكن النظام العالمي صار ثلاثة، حسب أيان بريمر في “فورين بوليسي”، الأول هو “النظام الأمني العالمي” الذي لا يزال تحت هيمنة أميركا، والثاني “النظام الاقتصادي العالمي” الذي صار متعدد الأقطاب تشارك فيه أميركا والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والهند واليابان، والثالث هو “النظام الرقمي العالمي” الذي صار القوة الجديدة المسيطرة على معظم جوانب الحياة.

والأرجح هذه المرة أنه لا أحد رابح في الحرب الباردة الجديدة، والكل خاسر.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى