أقلام وأراء

رفيق خوري: صدام الأساطير والأيديولوجيا والتكنولوجيا

رفيق خوري 13-8-2025: صدام الأساطير والأيديولوجيا والتكنولوجيا

ليس العداء سوى واحد من أبعاد اللعبة الشرق أوسطية بين إيران واسرائيل، ولا ما أسسته البدايات وتقود إليه النهايات سوى تأكيد أن قدر أي منهما أن تكون دولة غير عادية. إسرائيل بنيت على أسطورة “الوعد الإلهي” لليهود بأرض كنعان، وحتى بالأرض من النيل إلى الفرات، والجمهورية الإسلامية بنيت على الغيب، حيث “الحكومة الإسلامية هي توأم الإيمان بالولاية، وهي حكومة القانون الإلهي، والحاكم فيها هو الله وحده، والمشرع هو الله وحده”، كما قال الإمام الخميني.

لكن بن غوريون وبقية مؤسسي إسرائيل وظفوا الأسطورة الدينية والإبادة النازية في خدمة مشروع استيطاني لا مثيل له في القرن الـ20، على حساب الشعب الفلسطيني الذي لا علاقة له بالهولوكوست. وهم استخدموا الأيديولوجيا الصهيونية والقوة العسكرية والتحالفات السياسية في أوروبا وأميركا، ثم التكنولوجيا لتوسيع دولة بلا حدود ولا دستور، وكان الحكم في أيدي علمانيين في اليمين واليسار.

أما الخميني الذي شاركه وطنيون يساريون ووسطيون وراديكاليون في الثورة على الشاه، فإنه أبعد كل هؤلاء وأقام حكم الملالي تحت عنوان “الحكومة الإسلامية”. وهو أقال نائبه المعين آية الله منتظري، بسبب انفتاحه المحدود وضيقه بالمستوى المرتفع من القمع. والمرشد الأعلى علي خامنئي أكمل لعبة السلطة في الجمهورية الإسلامية الحائرة بين الطابع الجمهوري والطابع الإسلامي، وشدد على أيديولوجيا ولاية الفقيه، وشجع استخدام التكنولوجيا، وخصوصاً في المشروع النووي وتصنيع الصواريخ الباليستية.

وكما في حرب غزة ولبنان وإيران، كذلك في الاستعداد للحروب المقبلة في المنطقة: رهان على توظيف الدين، واندفاع في صدام الأساطير والأيديولوجيا والتكنولوجيا. سلاح إيران في إدارة الحرب والسياسة هو “التكيف الشرعي”، أي تنفيذ “الأمر الإلهي”، وتجييش الفصائل المسلحة الشيعية الأيديولوجية في العراق ولبنان واليمن، ومن قبل في سوريا، وبالطبع وسط انهمار الصواريخ كالمطر على إسرائيل. وإسرائيل لجأت، فوق كل ما لديها من تفوق عسكري وتكنولوجي، إلى فتاوى الحاخامات لتبرير قتل المدنيين في حرب إبادة. فضلاً عن هيمنة “الصهيونية الدينية” على حكومة نتنياهو، الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية عبر توزير بين غفير وسموتريتش.

ولم يتأخر الرئيس التركي أردوغان في توصيف المواجهة الدائرة في غزة وفلسطين بأنها “مسألة هلال وصليب”، ولا أحد يجهل أن إعطاء الطابع الديني لأية حرب يعني الدخول في صراع بلا نهاية. فالصراع على الأرض له تسويات، ولا تسوية في الصراع على السماء.

يعترف رئيس الحكومة الراحل الجنرال شارون في مذكراته بأن “مشكلات جيلي بدأت عندما فقد العلاقة بجذوره، وازدادت مع جيل أبنائنا وجيل أحفادنا مع التصرف كإسرائيليين لا كيهود لديهم تاريخ وأساطير”. ويصف المؤرخ إيلان بابيه الصراع على هوية إسرائيل بأنه بين “دولة يهودا” في الضفة الغربية التي أنشأها المستوطنون، وكانت مزيجاً من”المسيحانية والتعصب الصهيوني والعنصرية”، وبين “دولة إسرائيل” المتمثلة في تل أبيب والقائمة على “فكرة دولة تعددية ديمقراطية علمانية غربية أوروبية تقاتل من أجل حياتها ضد دولة يهودا”، لكن “دولة يهودا” هي المسيطرة حالياً.

وفي الطابع الديني للصراع مع إسرائيل بطبعته الفارسية، بعد الطابع القومي بالطبعة العربية، كما في صدام الأساطير، مكان ودور لفصائل سلفية جهادية على غرار “داعش” و”القاعدة” وسواهما تحاول إقامة خلافة انتهى زمنها من قبل سقوط السلطنة العثمانية. غير أن هذه الفصائل التي تعيش على أيديولوجيا من قرون الانحطاط، لا من قرون الازدهار والحوار العقلي، وعلى خرافات وأساطير، باتت تدرك أهمية التكنولوجيا في مغامراتها. وإذا كان وزير المالية اليوناني السابق يانيس فوروفاكيس، يرى أننا “نعيش في مرحلة الإقطاعية التكنولوجية في عالم افتراضي مخيف”، فإن العالم كله، بما في ذلك إسرائيل وإيران والفصائل السلفية، يبدو في سباق على استخدام الذكاء الاصطناعي في كل مجال.

والظاهرة اللافتة أخيراً في حرب لبنان وحرب إيران هي الاعتراف بأن التكنولوجيا دفعت الأيديولوجيا والأساطير إلى موقع ضعيف في المعارك، ففي لبنان تمكنت إسرائيل من اصطياد قادة الصف الأول والصف الثاني والصف الثالث في “حزب الله”، عبر القدرة التكنولوجية على كشف أماكنهم في المكاتب السرية والمنازل غير المعروفة.

وفي حرب إسرائيل وأميركا مع إيران، فإن التكنولوجيا كشفت قادة الجمهورية الإسلامية في المخابئ والمنازل، وأدت إلى التمكن من اغتيال عدد كبير ومهم من قادة الحرس الثوري والجيش وعلماء الذرة. وليس أمراً عادياً أن تصارح صحيفة “شرق” الإيرانية أهل الغيب والأيديولوجيا بأن “حرب الإرادات ليست هي التي تقرر مصير الحرب”، وأن “حرب التكنولوجيا هي التي تحدد المنتصر في الميدان”.

لكن لورنس فريدمان، الخبير البريطاني والبروفسور الفخري لدراسات الحرب في كلية الملك في لندن، يحذر من “أوهام الحروب القصيرة السريعة”، وهو يرى، في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”، “فكرة تصور مفاجآت الهجوم تؤدي إلى انتصارات حاسمة لم تقدم حصيلة مرضية”، فنحن في عصر “الحروب الدائمة”. العملية العسكرية “الخاصة” الروسية في أوكرانيا صارت حرباً طويلة، كذلك حرب غزة، ولا أحد يتعلم من أخطائه ولا من أخطاء سواه.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى