رفيق خوري: أبعد من الاعتراف: الدولة هي القضية

رفيق خوري 27-9-2025: أبعد من الاعتراف: الدولة هي القضية
الأمم المتحدة في الـ80. لا تقاعد ولا حيوية. لا غنى عنها ولا رهانات كبيرة عليها. الشيء الوحيد المزدهر كل خريف في نيويورك هو موسم الخطابة الدولية من على أعلى منبر دولي وأقلها تأثيراً في الأحداث. الأمين العام للمنظمة الدولية يوصف بأنه “بابا علماني” يريد الخير والسلام للجميع، غير أنه لا صدى لدعائه ودعواته إلا لدى الضعفاء. وهذه حال أنطونيو غوتيرش الذي يبكي وهو يطلب عبثاً وقف النار. وأهم أمنائها العامين داغ همرشولد كان يقول إن “مهمة الأمم المتحدة ليست إيصال العالم إلى الجنة بل إنقاذه من الجحيم”. وكان تقديره في لقاء مع الرئيس جمال عبدالناصر “أن وجود الأمم المتحدة يتوقف على القوى الكبرى، لكن نجاحها يتوقف على الدول الصغيرة”.
الواقع أن الأمم المتحدة عجزت عن إنقاذ العالم من الجحيم وحتى عن وقف المعارك بسبب خلافات الكبار الذين كانت اهتماماتهم ولا تزال توظيف الجحيم في صراعاتهم على النفوذ والمصالح في الدول الصغيرة والمتوسطة. روسيا غزت أوكرانيا ومنعت مجلس الأمن وكل المحاولات الأخرى من إخراج كييف من الجحيم أو أقله من وقف النار لشهر. وإسرائيل أوقدت نار الجحيم في حرب إبادة على غزة من دون أن تتمكن الأمم المتحدة أو أية قوة من وقف المجازر، لأن أميركا تحمي نتنياهو. وفتش عن حق الفيتو الذي تملكه خمس دول فقط تعامل بقية الدول كزبائن وضيوف على نادي الكبار، إلى حد القول إنه لو لا الصراع العربي – الإسرائيلي، والصراع الإيراني – الإسرائيلي، وما بعد الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان لبدت الأمم المتحدة عاطلة عن العمل، باستثناء ما تقوم به المنظمات التابعة لها مثل الصحة العالمية واليونيسكو وحقوق الإنسان ومواجهة الكوارث.
ذلك أن قضية فلسطين تجاوزت الـ100. فهي سبقت تأسيس “عصبة الأمم” بعد الحرب العالمية الأولى ولعنة “وعد بلفور”. وهي بقيت قضية بلا دولة، على رغم مرور 80 عاماً على تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ثم قيام إسرائيل، لكن هذا العام تميز بحدث أهم من أن يكون رمزياً، عقد مؤتمر “حل الدولتين” برئاسة سعودية – فرنسية وإصدار “إعلان نيويورك”. ومسارعة دول أوروبية في طليعتها بريطانيا صاحبة “وعد بلفور” وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وسواها مع كندا ودول في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية المعلنة بقرار فلسطيني عام 1988، والإصرار على أن تكون الدولة قابلة للحياة ومتصلة جغرافياً ومنزوعة السلاح.
السبب وراء هذا الزخم السياسي والدبلوماسي ليس الإعجاب بما قامت به “حماس” يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بل الإدانة الشديدة لما تقوم به إسرائيل من توحش في حرب غزة الإبادية. وما كان واضحاً، لا فقط في خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بل أيضاً في إعلان نيويورك، هو إدانة “حماس” مع إدانة إسرائيل والمطالبة بتجريد “حماس” من السلاح ومنعها من القيام بأي دور في حكم غزة والسلطة الوطنية، أي إن “حماس” خسرت والقضية ربحت.
لا شيء يدعو إلى السخرية أكثر من رد إدارة الرئيس دونالد ترمب وحكومة بنيامين نتنياهو على الاعتراف الدولي الواسع بالدولة الفلسطينية، بالقول إنه “مكافأة لـ’حماس‘ والإرهاب”. ولا شيء يكشف عبثية النظام الدولي أكثر من أن تبدو 160 دولة معترفة بالدولة الفلسطينية عاجزة عن التأثير في موقف دولتين هما أميركا وإسرائيل. والمسألة ليست فقط حول خريطة الطريق إلى الدولة الفلسطينية وحدودها، بل أيضاً حول تحديات الطريق المقطوع إلى الدولة بقوة واشنطن وتل أبيب.
والسؤال المطروح هو ماذا لو لم يرفض الفلسطينيون والعرب ما قبله بن غوريون والحركة الصهيونية، وهو قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية الصادر عن الأمم المتحدة عام 1974 تحت الرقم 181؟ ولماذا يضطرون إلى المطالبة خلال عام 2025 بأقل مما كان معروضاً عليهم عام 1947؟
الجواب المؤكد بالوقائع حالياً هو أن إعلان حكومة نتنياهو اليمينية المتشددة بطرفيها الديني والعلماني الرفض القاطع لقيام دولة فلسطينية ليس موقف اليمين فقط في الليكود وحلفائه، بل هو أيضاً موقف حزب العمل واليسار المغلف بالدبلوماسية والخداع. حتى إسحاق رابين الذي كان مع الرئيس ياسر عرفات ومحمود عباس وراء “اتفاق أوسلو”، فإن موقفه غير المعلن هو إعطاء الفلسطينيين نوعاً من الحكم الذاتي لإدارة شعبهم ويستطيعون تسميته “دولة”. لا بل إن رابين قال لعرفات في لقاء معه “أنت تريد ثلاث دول فلسطينية لا دولة واحدة، إذ حق العودة يجعل إسرائيل دولة فلسطينية. ومع الانسحاب الكامل من الضفة الغربية وغزة تقوم دولة فلسطينية فيهما، ومع تزايد الهجرة إلى الضفة الشرقية يصبح الأردن دولة فلسطينية.
أما الجواب الافتراضي، بصرف النظر عن الخطأ في مراجعة التاريخ تحت عنوان “لو”، فهو أن دولة إسرائيل التي قال مؤسسها بن غوريون إن “الحصول على الدولة أهم من حدودها، لأن الدولة ثابتة والحدود متغيرة”، كانت مرشحة لاحتلال الدولة العربية بموجب قرار التقسيم كما فعلت باحتلال الضفة التي كانت “وديعة” مع الأردن واحتلال غزة التي كانت تحت الحكم الإداري العسكري المصري واحتلال الجولان السوري.
ومن هنا نبدأ. فلا بد من خطوات عملية لتفعيل “حل الدولتين”، وإلا كان الحديث عن دولة على الأرض وأخرى على الورق. ولا أحد يصدق أن 160 دولة بما فيها أوروبا والصين وروسيا والهند وباكستان ومصر والسعودية وإندونيسيا عاجزة عن الضغط على أميركا للضغط على إسرائيل، إذا استخدمت هذه الدول ورقة المصالح والمواقع الاستراتيجية والمصادر. فلا أمن لإسرائيل على حساب الأمن العربي. ولا سلام يبحث عنه ترمب في الشرق الأوسط من دون تسوية القضية الفلسطينية لتصبح دولة. وقديماً سخر المؤرخ الروماني تاسيتوس من الذين قال إنهم “يصنعون صحراء ويسمونها سلاماً”.