أقلام وأراء

رجب أبو سرية يكتب – عن هذه القرارات القراقوشية

بقلم رجب أبو سرية

في الوقت الذي تقترب فيه نهاية هذا العام، الذي لن تذكره الناس، إلا بأنه كان عام الموت المحيق المرتبط بفيروس كورونا الفتاك، والذي سيذكره الفلسطينيون حصراً، بأنه كان عام انهيار جدار الإسناد العربي للحق الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وأنه كان عام تطبيع عربي مجاني بالغ الخطورة، لن تنجح هدايا «بابا نويل» التي تحط على أحلام الصغار في نكء جراحه ولا في مداواة ألمه، في هذا الوقت بالذات يأتي نظام حكم «حماس» في قطاع غزة، ليرش على الجرح ملحاً، فيذكرنا بأنه ما زال موجوداً وقائماً بكل جوره وقسوته.
ولم تمر سوى أيام قليلة على المزاد الخطابي الممض الذي تصدّره محمود الزهار، حتى جاء تعميم ما يسمى مكتب الوعظ والإرشاد، ليحرّم الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، ورأس السنة الميلادية، وكأنه يستكثر على الفلسطينيين، أن يعرفوا ولو ليوم واحد وحتى لو للحظة طعم البهجة، أو كأنه يسعى لأن يصادر أملاً يعتمل في صدور الناس، بأن يغادر هذا العام المقيت، آخذاً معه بيد «كورونا»، وباليد الأخرى دونالد ترامب.
في حقيقة الأمر، يمكن القول: إنه قد سبق السيف العذل، فلم تجد كل محاولات بعض مسؤولي «حماس» توضيح الموقف، بعد ما تعرض المرسوم الداخلي لكل رد الفعل الذي حدث، خاصة من قبل منظمات حقوق الإنسان ومن فصائل العمل الوطني، ورغم أن الموقف الذي عبر عنه المرسوم المشار إليه كان يستهدف حدثاً بعينه، إلا أن ما سميت وثيقة داخلية، تعبر عن ثقافة نظام الحكم « القراقوشي» في غزة، والذي يمكن وصفه بأنه «فيروس» التزمّت الذي اختبأ ونجح حتى اليوم في تفادي السقوط، وها هو يعلن مجدداً عن وجوده، ما أن لاحت له الفرصة، وكأن غزة المثقلة بكاهل الحكم الظلامي الممتد منذ أربعة عشر عاماً مضت، لا ينقصها إلا المزيد من الكبت والقهر.
وقراقوش الذي يرتبط اسمه بالأحكام الجائرة والتعسفية كان خادماً لعم صلاح الدين، أعتقه ومرت به الأيام لينوب عن القائد الأيوبي في حكم مصر، وهو كان يجمع بين الظلم والغباء، فيما سجل التاريخ أيضاً خلال ولاية الحاكم بأمر الله أحكاماً غريبة، كأن يمنع «الملوخية» وأن يفرض على الناس منع الخروج من بيوتهم نهاراً.
وفيما شهدته منطقتنا خلال السنوات الأخيرة، ظهرت أحكام مثل هذه خلال ولايات جماعات الإسلام السياسي في مناطق عدة، أي أن «حماس» عادت بعد وقت لتظهر علانية حكمها لقطاع غزة، متبوعاً بما تسمى حكومة غزة، أو اللجنة الإدارية الحكومية، التي أعلن عن حلها بعد اتفاق القاهرة عام 2017 لتعود مجدداً للظهور من خلال نشاط أعضائها، ثم من خلال أحكامها الصادرة عنها وعن الهيئات التابعة لها، ومنها ما تسمى وزارة الأوقاف في غزة.
بالعودة إلى اللبس أو الالتباس الذي يدور في رؤوس «حماس»، حول عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية، فإنه لا بد من القول: إن الأمر لا يقتصر فقط على الشعائر الدينية الخاصة بمسيحيي فلسطين أو مسيحيي قطاع غزة، وهم أقلية لا يتجاوز تعدادها 2% من سكان القطاع، الأمر الذي يتطلب توفير كل أشكال الحماية والرعاية لحقوقهم الدينية والشخصية كونهم أقلية بالأساس، كذلك لا يقتصر على كون من تنسب له مناسبة عيد الميلاد، أي السيد المسيح، نبياً فلسطينياً بالأصل، بل إلى أن رأس السنة والكريسماس، هما يوما عيد للإنسانية جمعاء، أي لهما مظاهر احتفال بشرية، ليست دينية وحسب، فلا يمكن فرض تقليص الاحتفاء بالمظهر الديني ولا قصره على الطائفة المسيحية وحسب.
إن منطق «حماس» بحكمها المتزمّت، يجر إلى تحريم ومنع كل مظاهر الابتهاج الدنيوي على قلتها في قطاع غزة، فمن يمنع الاحتفاء بالكريسماس، أو حتى يسمح بمظهره الديني فقط، يحرم بالسياق أن يحتفي البشر بأعياد ميلادهم الخاصة، كذلك بحفلات الخطوبة والزواج، وقصرها على المراسيم الدينية فقط، من إشهار مثلاً، ولن يطول الوقت حتى يتم تحريم الغناء والرقص وما إلى ذلك من مظاهر الابتهاج الطبيعي عند البشر الذين ابتلوا بحكم المستبد القراقوشي.
كل يوم يمر، وتبقى فيه غزة محاصرة ومعزولة في ظل حكم ينتمي للعصور الوسطى، خارج سياق العصر والزمان، تتوالى مظاهر التزمّت ومتواليات القهر والاستبداد، ولا حل إلا بفتح أبواب غزة على الخارج، وعلى سياق الزمن الحاضر، ومثل هذا النظام من الحكم، ما هو إلا وصفة ممتازة لتأبيد الاحتلال والقهر، وقد تعلمنا من مسيرة السنين أن من يقهر شعبه لن يحقق له الحرية، ولا لغيره، ولا بأي قدر كان، وأن الحكم المستبد لن يحقق التحرر من الاحتلال، ولن ينتصر عليه، مهما ادعى.
إن أحد مظاهر المأزق الفلسطيني الداخلي المتواصل بفصوله، يكمن في المعالجة السياسية المجردة دائماً، وكأن ثقافة المواجهة الخارجية ما زالت تحكم العقلية السياسية، التي تبرر فرض الأحكام العرفية، بحجة مواجهة العدو الخارجي، وكان هذا أمراً ممكناً قبوله فيما سبق من عقود مضت، لسببين، أولهما أن المواجهة كانت من الخارج، وكان الشعب كله تحت نير الاحتلال، والفصائل ما هي إلا حركة تحرر، أما اليوم وبعد كل هذه التجربة، فإن «حماس» تتولى إدارة جزء من الشعب الفلسطيني، وهي حزب حاكم، لا بد من مساءلته عما يقدمه له من خدمات، ولا تجدي هنا جردة الحساب من جيب المقاومة، التي لم تحرر الأندلس على أي حال، وكما تجري مساءلة أوسلو عما حققه من نجاحات وإخفاق، لا بد من مساءلة «حماس» عما فعلته بغزة خلال عقد ونصف العقد من الحكم المنفرد أولاً، وفي ظل التحرر من الاحتلال الإسرائيلي المباشر ثانياً.
أي أنه يجب عدم الاستمرار بربط ملف غزة الداخلي بتطورات المصالحة أو حوارات إنهاء الانقسام، ويجب على فصائل غزة ألا تكتفي بانتقاد سياسات «حماس» الداخلية وحسب، بل أن تسعى لإسقاط حكمها المنفرد، والمطالبة على الأقل بإخضاعه للمساءلة والمراجعة الشعبية والسياسية الجماعية، فإذا كان لا بد خلال مرحلة انتقالية من لجنة حكومية تدير غزة، فلا بد أن تكون جماعية وشعبية في الوقت نفسه، أي لا بد من مزاوجة الكفاح ضد الاحتلال مع الكفاح ضد الاستبداد، فحتى تنجح حركة التحرر في إنهاء الاحتلال، لا بد أن تولي الكفاح ضد الاستبداد الأهمية الكافية، وإلا فلن يحصل الشعب لا على بلح الشام ولا على عنب اليمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى