رجب أبو سرية: حكومة المستوطنين تصطدم بالعالم ثم بأميركا
رجب أبو سرية 26-12-2025: حكومة المستوطنين تصطدم بالعالم ثم بأميركا
يبدو أن الفشل هو مصير محاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتنفيذ ما بات يسمى بخطته العظمى في الشرق الأوسط، والتي مضمونها إطلاق ورشة استثمار اقتصادي غير مسبوقة، من شأنها أن تحقق للاقتصاد الأميركي قوة دفع في مواجهة المنافس الصيني العملاق.
لقد اختار ترامب الشرق الأوسط بالتحديد لعدة أسباب، أهمها ما يوجد فيه من أموال طائلة لدى دول صغيرة الحجم جغرافياً وسكانياً، ولديها دوافع واضحة للاستثمار في جميع أنحاء العالم، خاصة في دول الغرب، وفي كافة المجالات بما في ذلك الرياضة والترفيه والعقارات، كذلك موقع الشرق الأوسط المتوسط بين الشرق المنتج والغرب المستهلك للسلع العالمية، لكن لأن التوتر في الشرق الأوسط يعترض طريق هذه الخطة، فإن ترامب سارع إلى محاولة وقف الحرب التي كانت قد اندلعت قبل دخوله البيت الأبيض، وذلك بمبادرة إسرائيلية لتحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي المتطرف، المتمثلة بإقامة دولة إسرائيل العظمى المهيمنة على الشرق الأوسط، استناداً لإسرائيل الكبرى التي تشمل جغرافية كل أرض فلسطين الانتدابية، وأراضي أخرى في كل دول الجوار، إن كان ذلك بالضم الكامل، أو من خلال إقامة المعازل أو المناطق الأمنية.
بل إن محاولات أميركا اليائسة لمنع انهيار النظام العالمي الأميركي الذي تتحكم بمقاليده وحدها وبشكل تام، منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي، لن يُكتب لها النجاح، وذلك لأكثر من سبب أيضاً، أهم هذه الأسباب، أن التنافس الحالي، لم يعد عسكرياً وحسب، بل بات عسكرياً_اقتصادياً، وفي هذا السياق تمتلك كل من الصين وروسيا قوتين عسكريتين _ اقتصاديتين كبيرتين، اجتمعتا منذ سنوات في «بريكس»، وهكذا لم تعد روسيا هي تلك الدولة التي كانت أيام بوريس يلتسين، المنضوية في الجيب الأميركي، كما لم تعد الصين تلك الدولة التي كانت عليها قبل عقود، حيث انكفأت على إعداد برنامج النمو الاقتصادي، بل باتتا دولتين لا تقلان كثيراً عن قوة أميركا، إضافة لذلك فإن ثروة الصين مبعثها النمو الاقتصادي الداخلي، أما ثروة روسيا فتعود لمواردها النفطية والغازية الطبيعية، بينما ثروة أميركا تعود لإرثها الاستعماري، أي من خلال ما تقوم بالسطو عليه من ثروات الغير، كذلك من كونها شرطي العالم، ومما تجنيه بحكم موقعها كقائد للنظام العالمي، ولعل اعتماد عملتها «الدولار الأميركي» كعملة تداول كوني، يحقق للولايات المتحدة ثروة سنوية هائلة، دون ان يبذل الشعب الأميركي اي جهد تنموي.
والسبب الآخر المرتبط بالسبب الأول هو أن أميركا ما زالت تعتمد في هيمنتها ومكانتها الدولية على ما نشرته خلال الحرب الباردة من «قواعد عسكرية» في كل أرجاء العالم، ومن ضمن هذه القواعد بما فيها البوارج وحاملات الطائرات، دولة إسرائيل، التي في مقاربة لهذا المنطق كانت تسمى حاملة طائرات أميركية في الشرق الأوسط، تصرف عليها أميركا سنوياً ما يعادل ما تصرفه على واحدة من حاملات طائراتها المنتشرة في محيطات وبحار العالم المختلفة، ذلك ومع ازدياد الوعي البشري نحو المساواة، وبعد انتفاء الحرب الباردة والاستقطاب بين معسكري الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، باتت شعوب الأرض ودولها لا تقبل ولا بأي شكل، أو على الأقل معظم مظاهر وأشكال الاستعمار القديم، بل إن العولمة جعلت بدافع من معيار الربح كل العالم سوقاً مفتوحة أمام رأس المال المنتج، وفي الوقت نفسه العالم كله ساحة استهلاك واحدة لكل سكان الكرة الأرضية، بما قلل مما كانت تحدثه الحواجز القومية بين دول وشعوب العالم من فواصل وشقاق وصراعات.
لهذا وكلما تقدم الوقت، فإن ظاهرة أميركا قائداً للنظام العالمي، ستبدو ظاهرة تنتمي للماضي، ولا تعود مناسبة لعالم العولمة، ولا لمجتمع كوني يقوم على أساس التنافس الحر، بل وعلى أساس استهلاك جماعي لكل ما تنتجه دول وشعوب العالم من سلع وبرامج وتقنيات، وعلى الأغلب فإنه بعد محاولات قام بها كل من دونالد ترامب خلال ولايتيه السابقة ما بين عامي 2016_2020، والحالية ما بين عامي 2024_2029، وجو بايدن خلال ولايته الوحيدة ما بين عامي 2020_2024، أي خلال عقد ونصف تقريباً، لإعادة ضبط أركان النظام العالمي الأميركي، ستضطر واشنطن الى الإقرار بحقيقة تغير العالم، وبأن المجتمع البشري يريد إدارة كونية مختلفة، وهذا يعني بأن يقر البيت الأبيض بهذه الحقيقة، وان تقوم أميركا بتغيير داخلي جوهري، للتأقلم مع الواقع الكوني الجديد.
ولعل التأقلم الأميركي مع ذهاب العالم الى نظام عالمي جديد، أكثر عدالة، يقوم على تقاطع المصالح بين الدول العظمى عسكرياً واقتصادياً، ستظهر معالمه داخلياً وخارجياً، داخلياً من خلال تقدم قيادات شابة إلى مواقع صنع القرار، وملء المواقع المهمة لإدارة الولايات والنظام الفدرالي، كما يفعل حالياً الحزب الديموقراطي، حيث فاز عدد من ممثليه الشباب، ومن جناحه الاشتراكي، الذي يوصف باليساري، بمن هم على شاكلة زهران ممداني عمدة نيويورك الجديد، وذلك حتى يبقى النظام الفدرالي نفسه صامداً، ومناسباً لجمع الولايات الخمسين في الإطار الاتحادي نفسه، وقطع الطريق على بعض الولايات من الانفصال، كما هو حال كاليفورنيا والولايات الجنوبية، خاصة تلك التي كانت ضمن الحدود السياسية للمكسيك، قبل اندلاع الحرب بين الجارتين في القرن التاسع عشر، وربما سيكون أهم ملامح هذا التحول، هو اندثار مظاهر التمييز العنصري نهائياً، اي تلك التي ظهرت واضحة في عهد ترامب، سواء تجاه الهجرة من الخارج، او تجاه ذوي الأصول الملونة من مواطني البلاد.
أما أهم مظهر سياسي خارجي، فسيكون قطع دابر المظاهر الاستعمارية الأميركية، وأهمها القواعد العسكرية، واستبدالها بمعاهدات واتفاقيات دولية، ومن بين هذه القواعد بالطبع إسرائيل، ذلك ان أميركا ستفضل علاقات ثنائية اقتصادية، كما بدأت تفعل خلال هذا العام الذي سيغلق روزنامته بعد أيام قليلة، مع دول الشرق الأوسط الثرية خاصة في الخليج، بينما تحولت إسرائيل الى عبء اقتصادي_سياسي على أميركا، ولعل العلاقة مع إسرائيل لن تكون قطعية تماماً، حيث لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التداخل بين ما هو داخلي وما هو خارجي في العلاقة بين الدولتين، نقصد وجود اللوبي اليهودي وتأثيره على الانتخابات سواء الرئاسية أو البرلمانية، وقد قال ترامب قبل أيام أمام المؤتمر اليهودي، بأن تأثير هذا اللوبي آخذ في التراجع، لذلك فإنه سيكون هناك ضغط على اللوبي اليهودي الأميركي نفسه، ليظهر ولاءه لأميركا اكثر من ولائه لإسرائيل، وهذا يتطابق مع مبدأ أنصار ترامب أصلاً.
كذلك ستتعاظم فكرة التمييز بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية كما قال قبل أسابيع نائب الرئيس جي دي فانس، وسيبدأ التحول في العلاقة مع إسرائيل من هذه الزاوية، وحقيقة ان شقة الخلاف بين إدارة ترامب وهي أكثر إدارة انحيازاً لإسرائيل وآخرها ربما، تزداد مع وجود حكومة نتنياهو المتطرفة الحالية يؤكد هذا المنحى، بما يعني بأن إسرائيل كما هو الحال مع أميركا ستضطر الى إعادة تشكيل داخلي انسجاماً مع التحولات الكونية الحاسمة، نحو النظام العالمي الجديد، ومنه النظام الإقليمي الجديد، خاصة وان ملامح هذا النظام الإقليمي بدأت تلوح في الأفق حتى بالشراكة مع أميركا، وذلك فيما يخص إطفاء الحريق الذي أشعله نتنياهو قبل أكثر من عامين من الآن.
كل ملامح هذه الصورة المتوقعة ليست من قبيل الخيال تماماً، ولا التوقع غير المحسوب، فالخلاف بين ترامب ونتنياهو الآن بدا واضحاً بالمقارنة مع ما كان عليه الحال مطلع العام 2025، خاصة في ملف غزة، وبالتحديد في نقطة الانتقال بخطة ترامب للمرحلة التالية، حيث يصر الأميركيون على الإعمار والإسرائيليون على نزع سلاح حماس، اي ان إسرائيل ما زالت تواصل العمل الأمني فيما أميركا تذهب على طريق الاستثمار.
ولأن العالم لن يطيق بقاء حكومة «المستوطنين» الحالية، وهذا وصف قال به يسرائيل كاتس وزير الجيش قبل يومين، حيث اكد على ان حكومته هي حكومة استيطانية، لن تخرج من قطاع غزة، بل وستشرع في الاستيطان في شماله، وبأنها تتحين الفرصة لإعلان السيادة على الضفة الفلسطينية المحتلة، وبالنظر على الإجماع الدولي والإقليمي على رفض التهجير والضم، والذي نجح في منع التهجير والضم فعلياً، في ظل وجود النظام الأميركي، بل وفي ذروة الانحياز الأميركي مع إسرائيل المتطرفة في اول عام من ولاية ترامب الحالية، فإنه من المؤكد ان لا يتحقق ما يقول به كاتس في ظل وضع إقليمي مختلف، لن يكون إلا أفضل مما كان عليه مطلع العام 2025، وهذا يؤكد بأن التحولات الإقليمية، خاصة في ظل الاستثمار الإقليمي، ستفرض على إسرائيل إلقاء متطرفيها لخارج المسرح السياسي، ذلك ان الاستثمار يتطلب استقراراً، بينما مشروع إسرائيل الكبرى يقوم على مواصلة طريق الحرب.



