رجب أبو سرية: تغيير الشرق الأوسط أم تغيير إسرائيل؟
رجب أبو سرية 9-12-2025: تغيير الشرق الأوسط أم تغيير إسرائيل؟
انطوى لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أواخر أيلول الماضي مع ثماني دول عربية _ إسلامية، على أهمية بالغة، لم تقتصر على ما أفضى إليه ذلك اللقاء من مرور لخطة ترامب الخاصة بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وحسب، بل لما يعنيه إدخال الدول العربية والإسلامية على خط الملف الفلسطيني/الإسرائيلي مجدداً، بعد ان حاولت إسرائيل وبمساعدة أميركية نزع ذلك الملف من سياقه الإقليمي، بل وتجازوه فيما يخص التطبيع، وقد نجحت نسبياً في ذلك قبل خمسة أعوام، حين عقدت اتفاقية أبرهام مع ثلاث دول عربية، وتتضاعف أهمية هذا المغزى من حيث انه جاء بعد إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مراراً وتكراراً هدفه من الحرب التي كان يشنها منذ عامين على عدة دول شرق أوسطية، نقصد سعيه الى تغيير الشرق الأوسط، وفق ما يحقق هدف إقامة إسرائيل العظمى الذي ما زال يداعب مخيلات اليمين المتطرف المهووسة بالتوسع والمشبعة بالعنصرية.
والحقيقة ان فكرة تغيير الشرق الأوسط كانت مطروحة منذ عقود، وبالتحديد منذ ثمانينيات القرن الماضي، اي بدأت تلوح في افق المنطقة عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ثم اتضحت بعد انهيار جدار برلين، وتغيير صورة العالم بأسره، خاصة في أوروبا التي كانت في قلب النظام العالمي السابق، نظام الحرب الباردة، وقد كان انتهاء النظام العالمي ثنائي القطبية قد تمثل بسقوط الأنظمة الشيوعية التي كانت تحكم شرق أوروبا، وتفكك كل من الاتحادين السوفييتي واليوغسلافي وكذلك انفصام عقد تشيكوسلوفاكيا، وكان يمكن ان يتتابع سقوط حجارة «ديمنو» النظام العالمي القديم، الى ما بعد انهيار أنظمة المعسكر الشرقي، بما يشمل الأنظمة التي كانت حليفة لها، وكان العديد من هذه الانظمة في الشرق الأوسط، إلا ان واشنطن اكتفت بإسقاط نظام صدام حسين، ولم تتابع عملية تفكيك دول الشرق الأوسط، خشية استيلاء الإخوان المسلمين والسلفيين الجهاديين على أنظمة الحكم في الدول العربية، ولم تفعل هذا إلا بعد عقدين كاملين، بما سمي بالربيع العربي.
حينها حلقت أحلام إسرائيل العظمى بأخيلة اليمين الإسرائيلي الذي بات متحكماً تماماً بزمام دولة إسرائيل، بعد ان طوى صفحة أوسلو ومعها اليسار الذي اقام دولة إسرائيل وفق قرار التقسيم ووفق مواصفات الغرب الأوروبي الليبرالي، وعملياً وفق مواصفات الحرب الباردة، ثم خطا اليمين بقيادة نتنياهو بعد شارون، خطوة أبعد بإغلاق مسار الحل التفاوضي، وفي نفس الوقت قام بنقل اليمين من دائرة اليمين الليبرالي، ضمن دولة إسرائيل «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» لتأكيد ربطها بالمعسكر الغربي، وتمييزها عن دول الشرق الأوسط التي كانت حليفة للشرق وفي حالة حرب صريحة معها، لدائرة اليمين اللاهوتي المتطرف، ليكون أداته في تحقيق هدف إسرائيل العظمى، أو الكبرى أيهما يمكن ان يتحقق وفق ظروف النظام العالمي الذي صار وحيداً بقيادة أميركية، وظروف الإقليم بعد سقوط الأنظمة التي كانت في حالة عداء صريحة مع إسرائيل، وبعد انهاك دولها في حروب داخلية، وشمل ذلك كلاً من سورية، ليبيا واليمن بعد العراق بالطبع.
أول ما سارع اليمين الإسرائيلي الحاكم الى تنفيذه بعد شن حرب العام 2000، بعد فشل قمة ياسر عرفات_اهود باراك_ بيل كلينتون في تموز من ذلك العام في كامب ديفيد، عبر المواجهة العسكرية لقطع الطريق تماماً على قيام الدولة الفلسطينية، وهكذا حقق اليمين الإسرائيلي منجزاً مهماً، لكن ظلت مواجهة استحقاق الأرض والشعب الفلسطيني المحتلين في كل من قطاع غزة والضفة الغربية ماثلة، حيث توالت خلال تلك الفترة، اي خلال عقدين تقريباً اقتراحات إسرائيلية غير رسمية بالطبع كلها كانت تبتعد عن منطق حل الدولتين، من قبيل دولة منزوعة السلاح، أي دولة غير سيادية، هذا من جهة ومن جهة أخرى، تقاسم ارض الضفة الغربية، بنسبة 60% : 40% وما الى ذلك، مع تواصل تغيير الواقع الجغرافي على الأرض، ليس ذلك المتعلق بفصل غزة عن الضفة وحسب، بل بتسريع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية، ومواصلة هدم بيوت الفلسطينيين وعدم منحهم تصاريح البناء خاصة في المناطق التي صنفت سي وفق اوسلو، ثم الأخطر كان توقف إسرائيل تماماً عن ادنى التزام بأوسلو بما في ذلك الجانب الأمني، حيث صارت تقتحم المدن الفلسطينية دون تنسيق مع الجانب الفلسطيني.
هكذا تشجع اليمين المتطرف نحو العمل على تحقيق إسرائيل الكبرى، بحدها الأدنى وهو قيامها على كامل ارض فلسطين الانتدابية، وهذا يتطلب ابتلاع الأرض الفلسطينية التي تبقت بعد قيام إسرائيل عام 48، لكن المعضلة كانت وما زالت هي في السكان الذين يعدون نحو ستة ملايين نسمة، منهم اثنان ونصف في قطاع غزة، وثلاثة ونصف في الضفة الفلسطينية، وهذه معضلة حقيقية نستذكر أبعادها بما كان يطرحه اليميني المتطرف المعارض اليوم افيغدور ليبرمان من فكرة التبادل السكاني بين سكان الجليل والمثلث وسكان المستوطنات، وكان ليبرمان ومن بعده نفتالي بينيت كما لو كانا مقدمة لقدوم كل من إيتمار بين غفير وبتسئليل سموتريتش، حيث صارت أهداف إسرائيل الرسمية أكثر سفوراً وواضحة تماماً، وبات إطارها هو قيام إسرائيل العظمى، بما يستدعي ويتطلب بالضرورة فك واعادة تركيب الشرق الأوسط برمته لتحقيق ذلك الهدف، وهذا يعني بأن إسرائيل باتت تسعى الى هدف يكون على حساب ليس فلسطين وحسب، بل وعلى حساب كل الشرق الأوسط بدوله وشعوبه قاطبة، وبالتحديد بشكل مباشر دول الجوار: سورية ولبنان والأردن ومصر، وما بعد الجوار كلا من العراق والسعودية، باستهداف أراضي تلك الدول كلها او نصفها او بعض منها.
معضلة أخرى واجهت إسرائيل بعد ان ظنت بأن اللحظة باتت مناسبة، بعد تحطم الأنظمة التي كانت تناصبها العداء في كل من العراق وسورية وليبيا، غير معضلة وجود نصف الشعب الفلسطيني بملايينه الستة في الضفة والقطاع ومليون آخر داخل إسرائيل نفسها، يقاتلون ضد مشروعها الاستعماري الإمبراطوري بما تبقى من «هيكل ديموقراطي» هو الكنيست، وضد عنصريتها التي تفشت ايضاً مع تكرس اليمين ومن ثم شراكته غير المقدسة مع اليمين المتطرف داخل المجتمع والدولة الإسرائيلية على حد سواء، تلك المعضلة تمثلت في ظهور المنظمات الجهادية، منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي على هدي الثورة الإسلامية في إيران، والتي واجهت أولاً إسرائيل في لبنان عبر مقاومة حزب الله، وثانياً في فلسطين إبان الانتفاضة الأولى من خلال حماس والجهاد الإسلامي، وهكذا وجدت إسرائيل نفسها أمام حائط صد آخر لم يكن في حسبانها، بعد تحطيم حائط الصد القومي العربي، لذلك بدأت تعتبر إيران وحلفاءها عدواً يجب تحطيمه وذلك لإزالة كل العقبات في طريق قيام دولتها العظمى او نظامها الإقليمي في الشرق الأوسط.
هذا هو السبب الحقيقي لعداء إسرائيل لإيران، وليس من سبب آخر، لا نووي ولا طبيعة النظام كونه إسلامياً أو حتى استبدادياً، فإسرائيل وحتى أميركا لم تعادِ ولا تعادي أنظمة إسلامية لمجرد انها إسلامية، ولا تخاصم الأنظمة الاستبدادية لكونها كذلك، والمهم ان إسرائيل من وجهة النظر الأميركية أخذت فرصتها كاملة خلال عامين كاملين لتحقيق هذا الهدف، حيث ساندتها أميركا بكل الأشكال والوسائل، من الدعم العسكري بالتسليح والتذخير، الى الرصد عبر الأقمار الصناعية، الى التغطية السياسية في مجلس الأمن، والى الضغط السياسي على العديد من الأنظمة في الشرق الأوسط، وحتى المشاركة العسكرية في مواجهة حوثيي اليمن، وفي شن الغارات على ايران، وحتى في اغتيال قادة حزب الله في لبنان.
لكن خلال عامين كانت الدنيا كلها تغلي وتنقلب ضد إسرائيل بما في ذلك الغرب الأوروبي، لدرجة أن اهم دولتين بعد أميركا في العالم والشرق الأوسط، نقصد فرنسا والسعودية تحركتا نحو رسم مسار سياسي لحل الدولتين، بما يعيد الأمر لما كان عليه منذ ما قبل عام 2000، وبما يضع حدا لكل ما سعى إليه نتنياهو عبر مسيرته السياسية الطويلة، لذك كان هدف خطة ترامب المباشر هو إغلاق الباب أمام المبادرة الفرنسية_السعودية، التي حققت فوراً اعترافات دولية مهمة جداً بدولة فلسطين، بالنظر الى اعتراف بريطانيا وفرنسا نفسها، إضافة لاستراليا وإسبانيا، وقد اضطر ترامب الى «تقديم» التنازل المتمثل بإدخال الدول العربية والإسلامية المؤثرة في الشرق الأوسط وفي العالمين العربي والإسلامي لإنجاح تلك الخطة، التي وجد فيها نتنياهو كابحاً لمشروعه التوسعي الشرق أوسطي، لكن لم يكن أمامه من خيار سوى قبولها والمراهنة على عدم تنفيذها بالكامل على الأقل، وهكذا يظل الصراع قائماً بين ان يتغير الشرق الأوسط وفق هوى إسرائيل أو أن تتغير إسرائيل بحيث تتوافق مع الشرق الأوسط.



