الضفة

د. يوسف يونس يكتب – قراءة في اتجاهات الاوضاع في الضفة الغربية

بقلم : د. يوسف يونس ، نائب رئيس مجلس ادارة مركز الناطور للدراسات

مؤشرات وإحصاءات :
انخفاض عدد العمليات الفدائية من 96 عملية في 2017 الى 66 عملية منذ بداية 2018. انخفاض في عدد القتلى الاسرائيليين، 13 في 2018، مقارنة بـ 14 في السنة الماضية. في 2017 اعتقل 2.700 فلسطيني ، انتموا الى نحو 700 مجموعة ، في مقابل اعتقال 600 مجموعة عام 2018 ، بعض هذه المجموعات كانت لها انتماء تنظيمي واضح وتوجيه من تنظيمات فلسطينية، معظمها جاءت بمبادرات فردية.
بالمقارنة بين المجموعات التي اعتقلت مع عدد العمليات التي نفذت، يمكن اعتبار ان ذلك مؤشر على احباط إسرائيل نحو 90% من العمليات، الا انه في المقابل يعتبر مؤشر على استمرار وجود البيئة المعادية للاحتلال في الأوساط الفلسطينية في الضفة الغربية في ظل إجراءات والاحتلال الاسرائيلي المتواصلة. وهذا ما اشارت اليه استطلاعات الرأي الاخيرة في الضفة حيث اعرب 57% عن تأييدهم لاستئناف العمليات العسكرية؛ مقابل 25% فقط لتأييد استئناف المسيرة السياسية؛ واعرب 63% من سكان الضفة عن تحفظهم من التعاون الامني مع اسرائيل. وهذا ما أكده أيضا نداف أرغمان (رئيس جهاز الشاباك) الشهر الماضي اثناء اجتماع لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست، حيث أوضح أن الهدوء في الضفة الغربية “مخادع” ، وبالرغم من احباط 480 هجوما في العام الماضي ، واعتقال 219 خلية تابعة لحركة حماس ، واعتقال 590 من العمليات الفردية  الا انه اعتبر ان ذلك مؤشر على ازدياد المناخ الداعم للعمليات المعادية لإسرائيل.
ما يحصل في الضفة يشكل تحولاً هاماً في سياق المواجهة مع الاحتلال مع استعادة أسلوب العمل الفدائي مع بروز النزعة الفردية، وهي التي تجلت في حوادث الدهس والطعن بالسكاكين وإطلاق النار، كما حدث مرارا في القدس، حيث الاحتكاك مع العسكريين والمستوطنين الإسرائيليين في حين تحاول الفصائل استثمار أو تجيير هذه العمليات الفردية لصالحها لتغطية قصورها أو عجزها .
بالرغم من مسارعة الفصائل إلى تبني بعض العمليات إلى ان الكثير من المؤشرات تؤكد ان الفصائل لا زالت بعيدة عن تلك الموجات الفدائية، بالمعنى المباشر، بعد أن انحسر دورها، بحيث بات فعل حركة “حماس″ يتركز في غزة، وفعل “فتح” يتركز في الضفة، بحيث إن كل حركة باتت تحسب بشكل دقيق تبعات أي نوع من أنواع المواجهة مع إسرائيل، في ظل تحول كل واحدة منهما إلى سلطة (فتح في الضفة وحماس في غزة)، مع أفول الفصائل الأخرى .

الوضع الفلسطيني والتصعيد العملياتي :
اعتبرت موجة العمليات الاخيرة من قبل الجمهور الفلسطيني عمليات بطولية مشروعة، وعزز اعلان حماس تبنيها لتلك العمليات، شعبيتها مقابل السلطة الفلسطينية التي تخشى من تصاعد المواجهات مع الجيش الاسرائيلي بما سيضعف موقفها أمام الجمهور الفلسطيني ومن ثم تدهور مكانتها السياسية.
وتتهم السلطة الفلسطينية حركة حماس بالمسؤولية عن التصعيد الأخير في الضفة الغربية مستهدفة استقرار الاوضاع، وصولا إلى اسقاط السلطة وتكرار تجربة غزة، بما يعرقل أهدافها الاستراتيجية لإقامة الدولة الفلسطينية وذلك في الوقت الذي تسعى فيه حركة حماس لتثبيت «التهدئة» في قطاع غزة.
وفي المقابل تتهم حركة حماس السلطة الفلسطينية بالمسؤولية عن تعقيد المشهد من خلال العقوبات التي فرضت على غزة ، والتي يعتبر الكثير من المراقبين انها كانت المحرك الأساسي وراء التوجهات التصعيدية لحركة حماس في الضفة الغربية.
واعتبر المراقبون ان توجهات حركة حماس التصعيدية “التكتيكية” تأتي استباقا لإجراءات “عقابية” اتخذتها السلطة ضد حكم حركة حماس في قطاع غزة، وآخرها حل المجلس التشريعي، وهو تكتيك مارسته حركة حماس في مرات عديدة بهدف كسب التأييد الشعبي من جهة، وإحراج السلطة من جهة ثانية.
وعكست هذه العمليات سلم اولويات حماس في الوقت الحالي من جهة تنفيذ أو تبني عمليات في الضفة الغربية مقابل الحفاظ على الهدوء في قطاع غزة، وجاءت تصريحات يحيى سنوار قائد حركة حماس في قطاع غزة، في اعقاب بلورة التفاهمات الأخيرة لوقف النار في قطاع غزة ، معتبرا ان “هذه التفاهمات لا تنطبق على الضفة”.
وتراهن حماس على الشعور المتعاظم بالاحتقان لدى سكان الضفة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانونها، فضلا عن الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة من اعتقالات واقتحامات وسط عجز واضح من السلطة الفلسطينية في التعاطي مع الوضع.
وتتبع حركة حماس في الضفة مسارين يتلاقيان في الهدف ذاته وهو القيام بعمليات مخططة وممنهجة تركز على استهداف الجنود الإسرائيليين، وهو ما ترجم في عمليتي “عوفرا” الاولى والثانية، والأولى، وعملية “البركان”، مع تجييش السكان للتظاهر، وهو ما بدا واضحا في المظاهرات التي خرجت في نابلس والخليل.
وكشفت الاجهزة الأمنية الاسرائيلية عن معلومات تتعلق بمساعي حماس لتصعيد عملياتها في الضفة الغربية ، حيث تم اعتقال المهندس أوس الرجوب، سكان الخليل، والذي تدرب ليصبح “مهندس” للعبوات الناسفة، وجرى تشغيله بصورة مباشرة من قطاع غزة، بدون صلة مع صلاح العاروري ومبعدي صفقة شاليط، في محاولة لتقصير التسلسل الهرمي القيادي وتحسين النتائج العملية، وذلك بعيدا عن التسلسل العملياتي السابق والذي يتم من خلال صلاح العاروري، بمساعدة عناصر في الضفة وعناصر من صفقة شاليط الذين ابعدوا إلى غزة. ووفق المصادر الأمنية الاسرائيلية فإن حماس تشدد الضغط على مؤيديها في الضفة لتنفيذ عمليات عسكرية، بدون الالتزام باتفاقيات التهدئة في غزة.
وبذلك يظهر بصورة واضحة مدى تأثير الانقسام على الخيارات الفلسطينية، فالمقاومة من جهة مطلوبة ضد الاحتلال ولكن ثمنها الذي ظهر من معاناة للسكان والإعلان عن إنشاء بؤر استيطانية جديدة ثمن باهظ، كما أن عدم المقاومة أيضاً له ثمنه حيث التسيّد الإسرائيلي والعربدة وانتشار الاستيطان. وبالتالي فنحن أمام معضلة، فإذا كانت المقاومة مشكلة وانعدامها مشكلة، وهذا هو الوضع الأسوأ الذي وضعتنا فيه إسرائيل جعل كل خياراتنا ليس أمامها سوى الخسارات. وفيما يقول مؤيدو حركة «حماس» وبعض الفصائل بضرورة العمل العسكري في الضفة الغربية، ترى حركة «فتح» أن العمل العسكري هو مجموعة خسارات لن تستطيع مواجهة إسرائيل ولكن ستعطي لها مبرراً لفعل ما تريد.
وتسعى إسرائيل لاستغلال هذا المشهد الفلسطيني المنقسم لإظهار عدم أهلية الفلسطينيين لأقام دولتهم المستقلة، بسببب انقسامهم ووجود حركات إسلامية راديكالية فلسطينية، في ظل رأي عام عالمي معادي للاسلام الراديكالي، والتركيز على ارتباط تلك التنظيمات الفلسطينية بايران وحزب الله، ما يقحم القضية الفلسطينية بصورة مباشرة في التناقضات العربية والإقليمية، ما ينعكس سلبا على القضية الفلسطينية، باتجاه تهميشها على الخريطة الدولية.
ويبدو ان اسرائيل نجحت بالفعل في تعميق الانقسام الفلسطيني الداخلي وتحويله إلى مكون رئيسي من مكونات النظام السياسي الفلسطيني ، ما انعكس باتجاه عجزهم عن مواجهة المشروع الاسرائيلي الاستراتيجي الذي أنهى حل الدولتين وانتهى معه حلم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ، ولم يتبقى سوى سلطات حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة تقتصر صلاحياتها ونفوذها على ادارة الشؤون الحياتية اليومية للمواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

التصعيد العملياتي والموقف الاسرائيلي :
جاءت الهجمات الاخيرة في الضفة الغربية في ظل تصاعد ممارسات قوات الاحتلال الاسرائيلية، فالاعتقالات والاغتيالات وأعمال الإرهاب التي يرتكبها المستوطنون، وغياب الأفق السياسي، والتي شكلت جميعها عوامل عززت التصعيد في الضفة الغربية.
وتجاهل نتنياهو تحذيرات الجيش والأجهزة الأمنية الاسرائيلية من أن الهدوء في الضفة الغربية مضلل، والإحباط من سياسة إسرائيل آخذ في التزايد، وإضعاف السلطة الفلسطينية سيكون عامل مؤثر باتجاه تدهور الاوضاع في الضفة الغربية.
ووفق تقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية فإن، حالة اليأس العام، وغياب الأفق السياسي، والأزمة الاقتصادية، وجهود حركة حماس لنقل المواجهات للضفة الغربية، كلها يمكن أن تكون عوامل تدفع الشارع الفلسطيني نحو موجه جديدة من العنف. وذلك بالرغم من حالة التعب في الشارع الفلسطيني، وعدم وجود رغبة لديهم في الدخول في موجة عنف جديدة، وعدم وجود طاقة لدى الفلسطينيين لموجة جديدة من المواجهات.
وجاء اعلان نتنياهو عن نيته الرد على العمليات الاخيرة بمجموعة من الإجراءات والعقوبات الجماعية للسكان الفلسطينيين والتي تستهدف ارضاء اليمين الاسرائيلي والمستوطنين، ما يؤكد على الاهداف الانتخابية لتلك الإجراءات :
تشريع البؤر الاستيطانية وتوسيع المستوطنات القائمة : قررت حكومة نتنياهو تنظيم وضع أكثر من 60 بؤرة استيطانية غير قانونية وأحياء استيطانية مبنية على أرض فلسطينية خاصة، وبموجبها ستتعهد إسرائيل بتزويد السكان بالخدمات وسيُسمح لوزير المالية بمنح ضمانات الرهن العقاري للمستوطنين لشراء شقق في هذه البؤر الاستيطانية، التي سيتم تعيينها كمستوطنات دائمة، بالرغم من اعتراضات المستشار القانوني للحكومة والأجهزة الأمنية الاسرائيلية.
طرد وإبعاد عائلات الفدائيين: تم تمرير مشروع قانون لطرد عائلات منفذي العمليات إلى قطاع غزة، على الرغم من اعتراض نداف ارغمان (رئيس الشاباك)، الذي اعتبر ان هذه الخطوة ستأتي بنتائج معاكسة وستزيد من حدة التوتر في الضفة الغربية. وظهرت الكثير من الأصوات المعارضة في اسرائيل لهذه الخطوة الذين اعتبروا انها ستكون تكرارا لأخطاء نتنياهو في صفقة شاليط التي قام بموجبها بإبعاد العشرات من نشطاء حماس بعد إطلاق سراحهم من السجون الاسرائيلية، والذين انضموا لاحقا إلى الجهود المبذولة لإعادة تأهيل الجناح العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية مجددا، ويقف بعضهم خلف العمليات الأخيرة ، حسب ادعاءات الاستخبارات الاسرائيلية.
أمر نتنياهو الجيش الإسرائيلي بتسريع هدم منازل منفذي العمليات ، رغم أن هذا الإجراء مثير للجدل وفعاليته مشكوك فيه ، فقد سبق في العام ٢٠٠٣ ان أوصت لجنة عينها رئيس الأركان آنذاك، موشيه بوجي يعلون، برئاسة اللواء أودي شاني، بوقف تدمير المنازل على أساس أنه لم يثبت أن عمليات الهدم ردعت، وقررت أن الضرر كان أكثر من الفائدة.
اشارت اجهزة الأمن الاسرائيلية الى مسؤولية حركة حماس عن سلسلة العمليات الأخيرة في الضفة الغربية ، بدعم من غزة وتركيا ولبنان من خلال البنية التحتية التي يديرها صلاح العاروري. ونقل نتنياهو رسالة تحذير إلى حركة حماس مفادها أنه لن يقبل بوقف إطلاق النار في غزة مع استمرار الهجمات في الضفة الغربية،  وهو التحذير الذي لم تأخذه حماس على محمل من الجد من خلال تصريحات قادة الحركة في غزة المؤكدة على استمرار المقاومة في الضفة الغربية. وقامت المعارضة الاسرائيلية بتحميل نتنياهو المسؤولية عن هذا الخطأ الاستراتيجي في إدارة الصراع مع حماس ، واعتبروا انه كان من المفترض ان يقوم بربط تفاهمات وقف إطلاق النار في قطاع غزة مع الضفة الغربية، لتجنب الطريق الالتفافي الذي سلكته حماس وقامت من خلاله بتصعيد عملياتها.
اقتحام مدينة رام الله ، من قبل قوات الجيش الاسرائيلي ، وتفتيش بعض المؤسسات التابعة للسلطة الفلسطينية ، في خطوة اعتبرت استفزازا خطيرا للسلطة الفلسطينية من جهة إحراجها أمام الشعب الفلسطيني واظهار عجزها عن الدفاع عن نفسها وعن شعبها.
تلك الإجراءات والعقوبات الجماعية جاءت مخالفة لموقف الاجهزة الأمنية والجيش الاسرائيلي، فقد أوصى رئيس الأركان غادي إيزنكوت ورئيس الشاباك نداف ارغمان بتركيز الجهود على منفذي العمليات والفصل بينهم وبين المدنيين والامتناع بقدر الامكان عن العقاب الجماعي باعتبار انه لن يؤدي إلى محاصرة موجة التصعيد العملياتية.
ومن الجدير بالذكر فقد تنوعت اساليب الجيش الاسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية، فخلال الانتفاضة الأولى والثانية اعتمدت سياسة “ماكينة قص العشب” والتي استهدف ضرب البنية التحتية للتنظيمات الفلسطينية من خلال عمليات الاعتقال الواسعة للنشطاء، في خريف 2015 اندلعت في الضفة موجة عمليات بادر اليها مئات الشباب الذين عملوا بصورة فردية وبدون شبكة تنظيمية، واجهتها اسرائيل بطرق استخبارية اعتمدت فيها على المراقبة الإلكترونية للشبكات الاجتماعية.
ويمكن القول ان اجراءات الحكومة الاسرائيلية السابقة جاءت لتؤكد ان الموضوع الأمني، ليس هو الأساس الذي بنيت عليه تلك القرارات ، وإنما اتخذت لأغراض سياسية وانتخابية، فتلك القرارات والإجراءات السابقة التي اقدم عليها نتنياهو بحجة الرد على العمليات الفدائية الفلسطينية تجاهلت النتائج الكارثية التي قد تسببها، فاستخدام القوة والعقوبات الجماعية وتوسيع المستوطنات والسيطرة على الاراضي الفلسطينية من خلال المس بحقوق الملكية الخاصة ، وهدم البيوت ووسائل اخرى، سيؤدي إلى إغلاق الأفق السياسي وتقويض وضع السلطة الفلسطينية و تعزيز المناخ الذي سيؤدي إلى المزيد من العمليات الفدائية، والعودة مجددا إلى جولة جديدة من العنف تنهي حالة الاستقرار النسبي التي شهدتها الضفة الغربية لسنوات.

التداخل مع الجبهة الشمالية :
شهدت سنة 2018 نجاح استراتيجي كبير للمحور الإيراني – السوري ، المدعوم من روسيا، والذي استطاع السيطرة على معظم الاراضي السورية واعادة الاستقرار للنظام. وبدأت تظهر الصعوبات ، في ضوء الضغط الذي تمارسه روسيا ضد اسرائيل لوقف عملياتها الجوية في سورية، منذ حادثة اسقاط الطائرة الروسية في شهر ايلول، مقابل تقليص النشاطات الإيرانية في سورية وخاصة تلك المتعلقة بتهريب قوافل الأسلحة الى حزب الله في لبنان. وفي المقابل لجأت إيران الى مخططات بديلة تعتمد على ثلاثة محاور :
الأول في العراق : تكثيف الجهود في غرب العراق لنشر صواريخ بعيدة المدى، يمكنها أن تصل الى اسرائيل.
الثاني في لبنان : حيث تسعى الى انشاء مصانع لتحسين مستوى دقة الصواريخ القديمة الموجودة لدى حزب الله.
الثالث في الضفة الغربية : حيث تتواصل نشاطات حماس والجهاد الاسلامي بتوجيهات إيرانية لإقامة بنية تحتية تساهم في التصعيد العملياتي ضد الاهداف الاسرائيلية.
وتعتمد إيران بصورة كبيرة على المحاور الثلاثة السابقة في استراتيجيتها الدفاعية في مواجهة احتمالات قيام الولايات المتحدة أو إسرائيل بعمليات هجومية ضد المشروع النووي الإيراني ، ففي هذه الحالة ستلجأ إيران إلى الخيار المفضل لديها وهو استهداف إسرائيل بالتنسيق مع حلفاءها في المنطقة وخاصة حزب الله والتنظيمات الفلسطينية، ما يعني جبهتين وربما ثلاثة في وقت واحد.
في المقابل وبينما كان نتنياهو يأمل في استثمار عملية «درع الشمال» على الحدود مع لبنان في حملته الانتخابية المبكرة، في الشارع الاسرائيلي. الا ان تطورات التصعيد العملياتي في الضفة الغربية اعادت التركيز على الجبهة الأخطر استراتيجيا، خاصة وان العمليات الفدائية التي نفذت في الضفة الغربية هذه السنة أدت إلى مقتل ثلاثة عشر اسرائيلي وإصابة 76، اكثر مما في جبهة غزة وفي جبهة الشمال معا.
ووفق المعلومات الاستخبارية فان ايران وحزب الله يواصلان جهودهما لاشعال الضفة الغربية بتصعيد العمليات الفدائية، باعتبار ان هذه الخطوة ستعرقل جهود وتوجهات إسرائيل للعمل على الجبهة الشمالية، وكشفت الاجهزة الأمنية الاسرائيلية عن معلومات استخبارية هامة تتعلق بتحركات إيران وحزب الله بالتنسيق صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، لتعزيز النشاطات العسكرية لحماس في الضفة الغربية.
وبذلك يمكن القول ان الضفة الغربية تم إقحامها في أتون صراع إقليمي محوره في إيران، وأضلاعه السياسية تعتمد على حزب الله والتنظيمات الفلسطينية، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الاوضاع في الضفة الغربية بعيدا تلك المحاور.

الموقف الأمريكي
بينما اعتبرت بعض التقديرات ان قيام إسرائيل بزيادة انتهاكاتها ضد الشعب الفلسطيني جاءت بهدف تكريس الأمر واقع لإجبار الفلسطينيين على قبول الخطة الأميركية وان الولايات المتحدة سوف تستغل اشتعال الأوضاع في الضفة الغربية لتهيئة الظروف لتمرير صفقة القرن، التي سبق أن سربت بعض تفاصيلها خلال الأشهر الماضية، لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الا ان تقديراتنا تشير الى ان التطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة سواء المواجهات في غزة ، وعملية درع الشمال على الحدود اللبنانية الاسرائيلية، والعمليات الأخيرة في الضفة الغربية ، ودخول الحكومة الاسرائيلية في أزمة بسبب استقالة وزير الدفاع الاسرائيلي افيغدور ليبرمان ، وصولا إلى اعلان حل الكنيست والتوجه إلى انتخابات مبكرة في نيسان / ابريل ٢٠١٩ ، إضافة إلى تطورات الاوضاع في سورية، كلها عوامل ضاغطة على الادارة الامريكية لتأجيل اعلان ما يسمى “صفقة القرن” التي كانت تستعد لإطلاقها لإنهاء الصراع العربي الاسرائيلي. ويبدو ان هذا التأجيل جاء مناسبا لتوجهات نتنياهو الذي استطاع الحصول على مبتغاه واهدافه من ادارة الرئيس ترامب، وخاصة من جهة الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية اليها في خطوة تاريخية شكلت انجازا لنتنياهو وحكومته.
فقد اخطأت الإدارة الامريكية بالإقدام على هذه الخطوة الاستباقية بهدف تقديم المزايا مقدما للحكومة الاسرائيلية بهدف تشجيعها على قبول صفقة القرن، التي كانت ستضمن حتما تنازلات هامة من قبل حكومة إسرائيل، حسب التسريبات الامريكية. وبهذا الشكل فإنه يمكن القول ان نتنياهو “استلم البضاعة قبل ان يدفع الثمن”، ومن المفارقات ان نتنياهو أراد ان يحصل على المزيد من المكاسب عندما طلب من الادارة الامريكية المساعدة في تعجيل إجراءات تطبيع العلاقات الاسرائيلية – السعودية،. هو ما قوبل بالرفض الشديد من السلطات السعودية.
وبذلك يمكن القول ان نتنياهو سيتوجه الى الانتخابات المقبلة في إسرائيل كبطل ورمز لقوى اليمين الاسرائيلي، الحصان الأسود في الشارع الاسرائيلي، ولم يقدم أية تنازلات للفلسطينيين ، بل على العكس قام باجراءات قمعية ضدهم وواصل دعم المشروع الصهيوني الاستيطاني في الضفة الغربية.

نظرة استراتيجية :
بالرغم من التقديرات التي تستبعد إمكانية انتقال الاوضاع الحالية في الضفة الغربية إلى مرحلة انتفاضة شاملة في ضوء عدة مؤشرات أهمها : محدودية العمليات من ناحية المكان، معظمها في رام الله، ومن ناحية ردود الفعل الشعبية، وغياب دعم السلطة الفلسطينية، في ضوء تخوفها من الخطر الذي يواجه استقرارها. اضافة إلى ان تعامل التنظيمات الفلسطينية مع الأمر من زاوية ضيقة تتعلق بمصالح تلك التنظيمات وصراعاتها الداخلية ، وليس وفق مصالح الشعب الفلسطيني. والمؤشر الأخير يتمثل في نجاح إسرائيل في تقليل نقاط التماس مع الشعب الفلسطيني، باستثناء تلك التي تتعلق بانتقال العمال إلى أماكنه ملهم في داخل إسرائيل والتي بالطبع من المستبعد ان تكون نقاط اشتباك جماهيري.
قد لا نرى في الضفة الغربية جبهة عسكرية تنشأ على غرار جبهة غزة، وذلك بحكم الاختلاف بين الحالتين، إلا أن اتساع دائرة العنف وعودة ظاهرة العمليات التي يقوم بها أفراد خارج أي سيطرة في الضفة، سيكون واحداً من التحديات المقلقة لإسرائيل، ويلغي أي إمكانية للسيطرة الاستخبارية في هذا الاتجاه.
احتمالات التصعيد في الضفة يمكن أن تنعكس على الاوضاع في قطاع غزة حيث تجري محاولات الوصول الى وقف اطلاق نار طويل المدى في قطاع غزة، وحسب تقديرات الاستخبارات الاسرائيلية، فان حماس تخشى من مواجهة شاملة مع إسرائيل واعتبرت ان استمرار تدفق الوقود والرواتب الى القطاع بتمويل من قطر يمكنه أن يساعد على الحفاظ على الهدوء النسبي. وتربط التوصل الى اتفاق طويل المدى بضمان الانجازات التي حددتها لنفسها كهدف: تخفيف كبير في الحصار على القطاع، تحسين واضح لوضع البنى التحتية المدنية هناك، والى جانب ذلك الحفاظ على قوتها العسكرية.
اعتماد الحكومة الاسرائيلية للعقوبات الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، ارضاء لقوى اليمين الاسرائيلي مع اقتراب الانتخابات الاسرائيلية، تجعل من احتمالات تدهور الاوضاع خيارا محتملا وبقوة. وهذا ما اكدته الاستخبارات الاسرائيلية من خلال تحذيرها من احتمالات انفجار الاوضاع في الضفة الغربية، بسبب سياسة العقوبات الجماعية والتوسع الاستيطاني، والاعتقالات وهدم البيوت ، انسداد الأفق السياسي، تراجع الاقتصاد وزيادة عدد العاطلين عن العمل، والتي تدفع جميعها باتجاه تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية.
التطورات الأخيرة في الضفة الغربية تضع تساؤلات أمام نجاعة المفهوم الاستراتيجي الاسرائيلي في إدارة النزاع دون “أفق سياسي”، والاعتماد على “الوضع الراهن” الوهمي، الذي تحت رعايته يتم التوسع الاستيطاني، تهيئة الظروف القانونية لضم مناطق في الضفة، وفي ظل غياب اعلان اسرائيلي رسمي عن تفضيل حل الدولة الواحدة وغياب أية توجهات اسرائيلية لإحياء مفاوضات تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، لا يمكن لاسرائيل الاعتماد على مفهوم “الوضع الراهن”، المرتكز إلى سياسة تحسين شروط الحياة المعيشة للسكان الفلسطينيين، لضمان الحفاظ على الهدوء الامني دون تحديد اهداف سياسية واضحة وفي ظل الامتناع عن المفاوضات.
إسرائيل غير معنية بانهيار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وكذلك فيما يتعلق بحركة حماس في قطاع غزة، فالبديل في كلا الحالتين يمثل خطرا استراتيجيا على إسرائيل، فإعادة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة تعني تحمل المسؤولية عن حوالي خمسة ملايين فلسطيني، اضافة إلى الخطر الأكبر والمتمثل في نهاية المشروع اليميني – الصهيوني الساعي إلى الانفصال عن الفلسطينيين وابقاؤهم في مناطق خاضعة للحكم الذاتي، وهو الأمر الذي تسعى اليه الحكومة الاسرائيلية من خلال اجراءاتها المتواصلة والمتسارعة في ضم الأرض وإقامة المستوطنات واضعاف السلطة الفلسطينية وليس إنهائها، مع اختصار دورها في ادارة الأمور الحياتية للمواطنين الفلسطينيين واستمرار التنسيق الامني مع الاسرائيليين. مع ضرورة الحفاظ على استمرار الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة ، بما يضمن استمرار حالة الضعف وتعميق الأزمة الفلسطينية.
وبالرغم من كل الادعاءات فان وجود سلطة فلسطينية مستقرة يشكل مصلحة استراتيجية اسرائيلية في ظل الاعتراضات الكبيرة من الجيش والأجهزة الامنية الاسرائيلية على خيار استمرار أو اعادة احتلال الضفة الغربية الذي يعتبرون انه سيكون خطأ استراتيجي ومصيبة وطنية تهدد مستقبل إسرائيل، وهذا ما عبر عنه ضباط اسرائيليين كبار في مذكرة نشرتها الصحف الاسرائيلية، قائمة الموقعين ضمت: اثنان من رؤساء الموساد، مسؤولين كبار في جهاز الامن العام “الشاباك”، قادة سابقين في الجيش الاسرائيلي.
وبالرغم من ضعف السلطة الفلسطينية وتصاعد نشاطات حركةَ حماس في الضفة الغربية، بصورة تدريجية، وبشكل مواز لاستمرار سيطرتها في قطاع غزة، الا ان التطورات الاخيرة تثبت انه لا يمكن استبعاد دور السلطة الفلسطينية في صياغة مستقبل قطاع غزة.
الفراغ السياسي يسمح للمستوطنين الضغط على الحكومة لتنفيذ خطوات ومشاريع استيطانية جديدة، تؤثر على حياة المواطنين الفلسطينيين وفي التنسيق مع اجهزة امن  السلطة الفلسطينية، والذي ساهم في الاستقرار النسبي للأوضاع لفترة طويلة في الضفة.
الاضطراب الذي يميز المشهد وتداخل الاستراتيجي والتكتيكي في حسابات كل الأطراف يضع علامات استفهام حول قدرة أي طرف على توجيه الاوضاع والسيطرة عليها، ورغم مظاهر الضعف التي يتسم بها الفلسطينيون ، في ظل معادلة دولية واقليمية غير متوازنة، دفعت بالقضية الفلسطينية إلى هامش الأجندة الدولية، الا ان الفلسطينيين يمتلكون أوراق قوة بإمكانهم استغلالها لتحسين وضعهم بما يخدم مصالحهم الاستراتيجية.

* د. يوسف يونس باحث مختص في الشؤون الإقليمية، نائب رئيس مركز الناطور للدراسات، باحث مختص في الشؤون الاقليمية
Www.Natourcenter.com
Ykarem2000@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى