أقلام وأراء

د. وليد سالم: إسرائيل: غزو الجبل والأطراف للساحل

د. وليد سالم 1-3-2023: إسرائيل: غزو الجبل والأطراف للساحل

انطلاقا من دراسات الجبل المحافظ مقابل السهل المنفتح، صدرت أبحاث تتعلق بذلك، وبالجبل الفلسطيني ضد البحر، كتبها الدكتور سليم تماري وغيره. تنقل هذه المقالة هذا النقاش إلى حالة إسرائيل، وتحاجج بأننا نشهد اليوم تعزز الجبل الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي في القدس والضفة، بالتحالف مع الأطراف الشمالية والجنوبية للدولة قبل عام 1948، في مواجهة الساحل الاستيطاني الاستعماري القديم، وذلك انطلاقا مما يمثله التحالف الجديد من حالة بعث، أو ولادة للمشروع الصهيوني من جديد، بعد أن فقد مشروعه الساحلي القديم زخمه في توسيع المشروع الصهيوني.

ويسعى التحالف الجديد إلى تغيير طبيعة الدولة، ونقل مركزها من الساحل إلى الأطراف والقدس والجبل، ومواصلة تعزيز المشروع التهويدي لفلسطين، وهو سعي قد يصطدم مجددا بالعقبات ذاتها التي حالت دون النجاح الكامل للمشروع التهويدي الساحلي السابق، مع وجود خطط لتجاوز العقبات السابقة، عبّرت عنها خطة “الحسم” لسموتريتش. هذا في الوقت الذي يبذل فيه الساحل أقصى جهوده للحفاظ على قيادته وامتيازاته في معركة ربما تكون الأخيرة، عبر المظاهرات والاحتجاجات التي ينأى عنها، بل ويدينها، مستعمرو القدس والضفة وأطراف الدولة الشمالية والجنوبية، المساندون لنقل مراكز الدولة إليهم.

بحسب سلمان أبو ستة، يقطن 89 في المئة من سكان دولة إسرائيل اليهود بحدود عام 1948 في مساحة 2458 كيلومترا مربعا، أي ما لا يزيد عن 12 في المئة من مساحة فلسطين في تلك الحدود. وتتركز غالبية هؤلاء في المدن الساحلية المنفتحة على العالم، العصرية والغنية والمرفهة، والعاملة في قطاعات اقتصادية متقدمة مثل الهايتيك، وهي مدن مثل تل أبيب وحيفا، ويضاف إليها وجود يهودي كثيف في القدس الغربية، المدينة الشاذة عن هذا السياق باتسامها بالتدين والمحافظة بعد الهجرة المتزايدة للنخب الأشكنازية العلمانية من المدينة نحو مدن الساحل، هذا فيما يتقلص الوجود اليهودي في أطراف الدولة الشمالية والجنوبية، والتي فيها تسود -إضافة للقدس الغربية- النزعة الدينية المحافظة المرتبطة بالفقر، وأوضاع أدنى في السلم الاجتماعي.

من جهة أخرى، لا يزال الشعب الفلسطيني يمثل الوجود الأبرز في النقب والجليل والمثلث، بل والغالبية في الأخيرتين، علما بأن النقب، يمثل مساحة تزيد عن 12 ألف كيلومتر مربع، حسبما أورد غازي فلاح، فيما لا يقطن فيه سوى أعداد قليلة من البشر. تشير هذه المعطيات إلى فشل القيادة الصهيونية الأشكنازية العمالية التي أسست الدولة والآيلة للسقوط في تهويد فلسطين، وبدون التقليل من إنجازاتها، حيث هدمت مئات القرى الفلسطينية واقتلعت مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في عامي 1948 و1967، وغيرت الإقليم والفضاء والمشهد في بعض أنحاء فلسطين، إلا أن الجليل والنقب والمثلث لا تزال عربية فلسطينية، وكذلك لا تزال معالم فلسطين باقية في الناصرة، المدينة العربية، وعكا، ويافا وحيفا، وغيرها مما يسمى بالمدن المختلطة.

حاولت الصهيونية بقيادتها الأشكنازية العمالية، الهروب من هذا الفشل إلى الأمام، وذلك عبر توسيع الكيان ليشمل كل أراضي فلسطين التاريخية، وتم ذلك من خلال شن حرب 1967 العدوانية، والتي أصبحت بعدها تسيطر على كل فلسطين، إضافة للجولان السوري المحتل الذي لا يزال في قبضتها، بعد أن انسحبت من سيناء عام 1982. هنا تمت السيطرة على الجبل الفلسطيني، وباشرت الاستيطان الاستعماري فيه تعويضا عن الفشل في توسيعه في أطراف الدولة التي قامت عام 1948. ولكن كعب أخيل الذي قد يتسبب في النهاية التامة للهيمنة الأشكنازية العمالية الساحلية المرفهة، قد تمثل في هذه “الخطيئة” بمدّ الاستيطان الاستعماري إلى الجبل، فقد ترتب على هذا التوسع، تحالف مستعمري الجبل مع سكان أطراف دولة 1948 والقدس اليهود، ضد الهيمنة الأشكنازية العمالية الساحلية.

حتى عام 1977 كانت النخبة الحاكمة الأشكنازية العمالية الساحلية تسيطر على مقاليد الأمور بزعامة حزب العمل، وقد ظنت هذه النخبة أنه يمكنها إقامة مشروع استيطاني استعماري تحت رادار الضبط، بحيث يقوم فقط في المناطق التي تريد ضمها إلى إسرائيل في القدس الشرقية والغور والسفوح الشرقية من الضفة المحاذية لإسرائيل، وفق خطة يغئال ألون آنذاك، ولكن مجرد إنشاء المشروع الاستيطاني الاستعماري قد مثل البداية التي حفرت فيها هذه النخبة الأشكنازية الساحلية القبر لنفسها، فقد أدت ديناميكيات نمو المشروع الاستيطاني إلى انقلاب السحر على الساحر، وخرج المشروع الاستيطاني الاستعماري عن الضبط، وبدأ يتوسع نحو إنشاء مدن استيطانية استعمارية، وليس مجرد مواقع استيطانية استعمارية صغيرة هنا وهناك في ريف الضفة، ومثل الانقلاب الليكودي عام 1977 تعزيزا لهذا التوجه، إذ إن الليكود والأحزاب المتحالفة معه كانت تمثل غالبية يهود القدس الغربية، والأطراف في فلسطين المحتلة عام 1948، والمستوطنين في الضفة (وغزة سابقا حتى تفكيك المستعمرات فيها عام 2005)، وكذلك تمثل الأشكنازية الأخرى التوجه الجابوتنسكي ذاته، التي رأت منذ فجر الصهيونية أنه لا بديل عن إقامة “الوطن القومي ” الذي نص عليه تصريح بلفور عام 1917 على كل أرض فلسطين التاريخية، وليس على جزء منها وحسب.

أدى هذا التحول في حينه إلى إثارة الذعر في أوساط النخبة الأشكنازية الساحلية التي صارت تتحدث في ثمانينيات القرن الماضي عن أن المستوطنين سينشقون عن الدولة، وسيخوضون حربا أهلية مع الجيش الإسرائيلي يسفر عنها نشوء “مملكة يهودا والسامرة “، وعبرت عن ذلك آنذاك كتابات صحافيين بارزين مثل زئيف شيف، وأكاديميين مرموقين مثل يعقوب تالمون الذي وجه رسالة لرئيس الحكومة الليكودي مناحيم بيغن عام 1980، يحذر فيها بأن البلد في خطر ومن حرب أهلية بين الأخوة.

لم يكن ذعْر النخبة الأشكنازية الساحلية إلا رعب الخائفين على مصالحهم وامتيازاتهم، ومن أن ينتقل مركز توزيع الثروة من ساحلها البحري الجميل إلى جبال الضفة، حيث يقيم المستوطنون المستعمرون، وإلى الأطراف، ومنها بئر السبع التي طرح نتنياهو لاحقا تحويلها إلى عاصمة تكنولوجية لدولة إسرائيل. وعلى العكس من إمكانية انشقاق دولة “يهودا والسامرة” عن الدولة، فقد قام المستوطنون بتكثيف تمثيلهم في أحزاب سياسية داخل الدولة، بحيث باتوا يمثلون القوة المقررة الحاسمة في الكنيست والحكومة، وهو الأمر الذي تحقق لهم في انتخابات الأول من تشرين الثاني 2022. في البداية طرحت حركة “غوش إيمونيم” بعد عام 1967 فكرة “استمالة القلوب والعقول” داخل إسرائيل لصالح المستوطنين، واليوم تم الوصول إلى مرحلة بات فيها المستوطنون هم المتحكمون بمفاصل الدولة، لا بل إلى وضع أصبح فيه مستوطنو الضفة والقدس يغزون الدولة من أجل صهينتها وتعزيز طابعها اليهودي، وذلك من خلال إقامة النويات التوراتية في اللد والرملة ويافا، من أجل محو ما تبقى من طابع عربي فلسطيني في هذه المدن.

يعني هذا التطور أن المستوطنين في الضفة والقدس، باتوا يأخذون على عاتقهم استكمال المشروع الصهيوني التهويدي في كل فلسطين، سواء المحتلة عام 1948، أو عام 1967، وذلك ضمن تقسيم عمل يتولى فيه بن غفير وحزبه مسؤولية استكمال تهويد النقب والجليل والقدس الشرقية، فيما يتولى سموتريتش (وكلاهما مستوطن في مستعمرات الضفة) استكمال تهويد الضفة الفلسطينية، والمشاريع بهذا الشأن باتت واضحة بعد أقل من شهرين من تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية لمهامها. بهذا الفهم، يمثل هؤلاء استمرارا لبن غريون وقادة الصهيونية الأوائل، الذين لم يكن لديهم استعداد لأية ذرة من الرأفة بالفلسطينيين، بعدما رأوه من تراجع النخبة الأشكنازية الساحلية -وفق رأيهم- عن طريق القادة الأوائل.

أمام سيطرة مستعمري الجبل والقدس والأطراف على مفاصل الدولة ودوائر صنع القرار فيها، وسعيهم الحثيث لتغيير بنية مؤسسات الدولة والمجتمع نحو المزيد من هيمنة الدين على كل نواحي الحياة بدعم من مستعمري القدس والضفة وأطراف الدولة الشمالية والجنوبية، عاد الذعر إلى النخبة الأشكنازية الساحلية، الذي انتابها في ثمانينيات القرن الماضي، ولكن هذه المرة بشكل أشدّ، عبّرت عنه مظاهراتها الأسبوعية في مراكز المدن، فهل تنجح النخبة الأشكنازية الساحلية في محاولتها هذه التي تبدو ربما أنها الأخيرة في الحفاظ على امتيازاتها، أم أن مركز الدولة سينتقل من “غوش دان” إلى جبال القدس، و”يهودا والسامرة”، والأطراف ومنها بئر السبع وطبرية والعفولة وصفد؟

لا تزال المعركة قيد السجال بهذا الشأن، إلا أن أمرين يبقيان في غاية الجلاء: الأول منهما أن أطراف الصراع الصهيوني الساحلي – الجبلي متفقان على أسرلة وتهويد فلسطين، وإن اختلفا في طرق العمل المتعلقة بكيفية تحقيق ذلك، كما أن هنالك ما هو مشترك بينهما بهذا الشأن، عبرت عنه التصويتات المشتركة للحكومة والمعارضة على قوانين مثل سحب الجنسية من “الإرهابيين” وعائلاتهم، وتمديد العمل بقوانين الطوارئ في الضفة. كما أن المحكمة العليا تقف إلى يمين الحكومة بشأن إخلاء الخان الأحمر، وطلبها مؤخرا تفسيرا من حكومة نتنياهو عليها تقديمه حتى أول أيار/ مايو القادم عن سبب امتناع الحكومة عن القيام بالإخلاء. هذه مجرد أمثلة على الأجندة المشتركة وتبادل الأدوار بشأن التهويد والأسرلة. والثاني: أن المشروع الصهيوني لتهويد فلسطين يفشل حتى الآن، فيما يستمر في محاولات التهويد وتغيير أساليب البطش والتفنن بها وفق منهج التجربة والخطأ الذي عبر عنه عنوان كتاب حاييم وايزمان، وإعادة تكرار المحاولة مرة ومرات بدون كلل حتى الآن، ومع ذلك لا يزال الجليل والنقب والمثلث عربيا، وعلى النحو ذاته، تم تفكيك المستعمرات الصهيونية من قطاع غزة عام 2005، وتبقى البلدة القديمة من القدس عربية فلسطينية، حيث لا يزيد عدد المستعمرين اليهود فيها عن واحد بالعشرة من سكانها رغم كل المحاولات التهويدية منذ عام 1967. وحدها حرب إقليمية، أو حرب شاملة ضد الشعب الفلسطيني قد تحل هذه المشكلة كليا أو جزئيا، عبر عملية طرد شاملة أو جزئية تحت غطاء هذه الحرب، ويخطط بن غفير وسموتريتش لاستفزاز الشعب الفلسطيني بكل الطرق، بما يوصل إلى الحرب الشاملة بحجة التصدي للعمليات الفلسطينية، وبحيث يترتب عن ذلك طرد أقسام واسعة من الشعب الفلسطيني، تحمل مسؤولية طردها بذريعة ممارسته “للإرهاب “، ويسمي سموتريتش ذلك بخطة الحسم، ولأنه يمثل التيار الأكثر تصميما، فإنه يمثل مستقبل الصهيونية ودولة إسرائيل الجديدة، ذات المراكز في القدس وبئر السبع والمستعمرات في الضفة، ومدن الشمال في الدولة، مقابل خبو “جمهورية تل أبيب ” كما سماها أرنون سوفير. وحدها متغيرات إقليمية ودولية وكفاحية فلسطينية يمكن أن تغير هذا المسار. ولهذا الحديث الموجز بقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى