د. ناصيف حتي: استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة
د. ناصيف حتي 16-12-2025: استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة
تعبر الاستراتيجية الأميركية الجديدة عن رؤية «ترمبية» واضحة أكثر مما تعبر عن ما كان -سابقاً- بمثابة ثوابت في الرؤية الأميركية للعالم وأولويات التحديات التي تواجهها واشنطن وكيفية التعامل معها، ومع الخصوم التقليديين، وذلك بالتعاون مع الحلفاء الاستراتيجيين أو الأطلسيين (نسبة للحلف الأطلسي). بالطبع تبدأ بالتأكيد على الشخص «رئيس السلام» وكذلك رؤيته والتي تشكل قطيعة أو ابتعاداً عن الماضي القريب والبعيد.
وللتذكير فإنَّ إدارة ترمب الأولى -وبعدها إدارة بايدن- كانت تلجأ لما صار بمثابة لغة تقليدية في اتهام الصين الشعبية وروسيا الاتحادية بأنهما تعملان على صياغة نظام عالمي جديد نقيض للمصالح والقيم الأميركية: الصين الشعبية عبر سياسة التنافس الاقتصادي بشكل خاص وروسيا الاتحادية عبر سياسات عدوانية وتخريبية.
الخطاب الجديد بعيد كل البعد عن لغة واشنطن السابقة مع الحلفاء الغربيين بشأن صياغة نظام عالمي ليبرالي يندرج في منطق وكذلك في مسار العولمة، ولو كانت هنالك الحاجة إلى احتواء بعض الآثار السلبية لتلك العولمة الجارفة. العولمة التي تعكس مسار «الانتصار الغربي» في المجالات السياسية والاقتصادية والقيمية على الشرق الذي انتهى إلى غير رجعة.
استراتيجية الأمن القومي الجديدة تهدف لأن تكون خريطة طريق لتبقى الولايات المتحدة «الأمة العظمى». مفاهيم التعاون الدولي والأممي المتعدد الأطراف والأبعاد ليست موجودة في «عقيدة ترمب»، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مفهوم الحلف الغربي الذي يعبر عنه بشكل خاص وليس وحيداً بالطبع منظمة حلف شمال الأطلسي. إنها سياسة الأحادية الحادة والتعاون بالقطعة وخلط الأولويات والمقاربات كما يقال التي تشكل أساس «العقيدة الترمبية». الأولوية في العقيدة الترمبية تبقى لـ«القارة الغربية» أو الأميركتين، وهذا يذكر بالعودة إلى «عقيدة مونرو» (1823) حيث تعتبر أميركا الجنوبية منطقة النفوذ الأساسي وكذلك الموقع الأولي في استراتيجية واشنطن. ستواجه الولايات المتحدة وضعاً قوامه أن الصين الشعبية هي الشريك التجاري الأول لأميركا الجنوبية وأن لروسيا الاتحادية علاقات عسكرية متطورة مع بعض دول الإقليم اللاتيني. رغم ذلك يبقى الهدف الأميركي بناء منطقة نفوذ شبه مطلق في المنطقة.
وعلى صعيد أوروبا، المثير للاهتمام بشكل خاص هو التركيز على المخاطر التي تواجهها القارة القديمة، والتي ليس مصدرها عسكرياً، أو جيوسياسياً، حسب الرؤية الأميركية، بل ناتجة من انهيار الهوية الثقافية ومخاطر التحولات الديمغرافية وتداعياتها التي تشهدها أوروبا بسبب ازدياد الهجرة وانعكاساتها السلبية المختلفة على المجتمعات الأوروبية كما يكرر الرئيس الأميركي. الأمر الذي بدأ ترمب بمعالجته في الولايات المتحدة عبر سياسات إقفال الحدود والتخلص التدريجي والانتقالي من بعض أنواع الهجرة أو تحديداً وفقاً لهوية المهاجرين. ويلتقي ترمب في هذا الأمر مع التيارات اليمينية المتشددة في أوروبا. فالخطر بالنسبة إلى أوروبا ليس في الحرب الأوكرانية أو الطموحات الخاصة بتمدد النفوذ الروسي عبر الحرب التي قدم ترمب مقترحات واقعية وعملية «لحلها» أو لإطلاق مسار الحل، بل يكمن الأمر في معالجة جذرية للمخاطر التي تتعرض لها المجتمعات الأوروبية من خلال فتح أبواب الهجرة التي تحمل «مخاطر محو الحضارة» الأوروبية.
وفي ما يتعلق بآسيا، أو تحديداً منطقة المحيطين، «فواقعية» ترمب تعترف أن هنالك تنافساً وتصادماً وكذلك إمكانية تسويات وتوافقات في المجالات الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية بوجود مصالح وأدوار لقوتين عظميين بشكل خاص هما روسيا والصين الشعبية: إنه من جديد منطق التعاون بالقطعة أو تقاطع المصالح بعيداً عن العناوين الآيديولوجية من ليبرالية وحرية وديمقراطية وغيرها. يأتي ذلك تحت عنوان هو «كسب المستقبل الاقتصادي ومنع المواجهات».
تشكل أفريقيا أيضاً منطقة تنافس طبيعي أميركي مع الآخرين، وتأتي الاستراتيجية الأميركية الجديدة حاملة لعنوان تهدئة النزاعات والعمل أو المشاركة في تسويتها عندما يمكن القيام بذلك والدفع نحو تعزيز العلاقات التجارية في ظل ازدياد الدخول والتمركز الاقتصادي الصيني المتزايد في أفريقيا.
ويحظى الشرق الأوسط بأهمية خاصة في الاستراتيجية الأميركية الجديدة مع التحولات الحاصلة في المنطقة بين خليط من الفرص والتحديات: فرص تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري في المنطقة كما تقول واشنطن، وتحديات الحروب والأزمات والتحولات المترابطة بشكل أو آخر والمفتوحة على احتمالات متعددة. يحصل ذلك فيما تنشط واشنطن في «دبلوماسية بناء السلام»، كما تقول، من دون أن يعني أنها ستنجح في مقاربتها ما دامت لم تعتمد الأسس التي صارت معروفة للتوصل إلى السلام الفعلي والمطلوب، وليس إلى ترتيبات تبقى موقتة وهشة، لإنقاذ المنطقة من المزيد من الحرائق.
المستقبل -القريب والبعيد- سيظهر مدى نجاح الاستراتيجية الأميركية الجديدة في رؤيتها ومقارباتها ومساراتها العملية في الأقاليم المعنية حسب تلك الاستراتيجية.
مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook



