د. منى أبو حمدية: سرقة آثار خربة البرج في المزرعة الشرقية: جريمة ثقافية تستهدف الذاكرة والهوية الفلسطينية
د. منى أبو حمدية * 7-12-2025: سرقة آثار خربة البرج في المزرعة الشرقية: جريمة ثقافية تستهدف الذاكرة والهوية الفلسطينية
مقدمة
تشكّل المواقع الأثرية في فلسطين أحد أهم الشواهد على عمق الوجود الإنساني والحضاري في هذه الأرض، وهي ليست مجرد حجارة صامتة، بل سجلّا مفتوحا للهوية والتاريخ والذاكرة. ومع ذلك، تتعرض هذه المواقع منذ عقود لنهب منظم وتدمير ممنهج على يد الاحتلال الإسرائيلي، في إطار سياسة تهدف إلى إعادة تشكيل الرواية التاريخية وطمس الوجود الفلسطيني المتجذّر. تأتي حادثة سرقة آثار خربة البرج في المزرعة الشرقية لتجسّد جانبًا خطيرًا من هذه الممارسات.
الخلفية التاريخية لخربة البرج والمزرعة الشرقية
تدلّ المكتشفات الأثرية على أنّ المزرعة الشرقية كانت مأهولة منذ العصر البرونزي المتوسط والمتأخر (2000–1000 ق.م)، وأن الحياة فيها تعود إلى أكثر من أربعة آلاف عام. وقد اعتمد السكان القدماء على الزراعة، وخاصة الزيتون والعنب والتين واللوزيات، مما جعل المنطقة مركزا ريفيا مهما عبر العصور.
ازدهرت منطقة المزرعة الشرقية ومحيطها في الفترة الكلاسيكية وتشمل الفترة الهلينستية والفترة الرومانية وبلغت ذروة التطور والاستقرار في الفترة البيزنطية
وكان من أبرز معالمها كنيسة بيزنطية ذات أرضية فسيفسائية ملونة تعود للقرنين الخامس والسادس الميلادي، مما يشير إلى مكانة دينية وثقافية رفيعة للموقع.
وفي القرن الثاني عشر الميلادي، وخلال الوجود الصليبي، شُيّد في خربة البرج برج مراقبة استراتيجي يتمتع بإطلالة بانورامية نادرة، حيث يمكن من قمته رؤية أجزاء من الأردن ومساحات واسعة تمتد نحو رام الله ونابلس، نظرا لوقوعه في مركز جغرافي يتوسط المنطقة ومرتفع.
ومع دخول المسلمين فلسطين، مرّ من المنطقة جيش عمرو بن العاص، واستقر فيها المسلمون لاحقا، مستخدمين أرضها وزراعتها. ثم تعاقبت عليها حضارات متعددة:
- الأيوبية بعد تحرير صلاح الدين لفلسطين عام 1187م،
- المملوكية حيث ازدادت أهميتها وكانت ضمن أوقاف السلطان الظاهر بيبرس،
- ثم العثمانية التي شهدت فيها المنطقة استقرارا سكانيا ونظاما إداريا محليا بارزا ضمن نظام الإقطاع.
إن هذا التسلسل الحضاري المتنوع يجعل من خربة البرج موقعا ذا قيمة أثرية وثقافية فائقة.
الجريمة: اقتحام الموقع ونهب أعمدة أثرية
أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي في ديسمبر 2025 على اقتحام خربة البرج برفقة جرافة ورافعة، وقامت بـ تجريف أجزاء واسعة من الموقع ونهب محتوياته، بما في ذلك أعمدة أثرية تعود للعصر البيزنطي. وقد وثّقت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية تفاصيل الحادث، مؤكدة أن ما جرى يرقى إلى جريمة ثقافية كاملة الأركان.
ولا يُعد هذا الهجوم حالة استثنائية؛ فقد صدرت تقارير دولية وفلسطينية تؤكد أن الاحتلال مارس عمليات سرقة ممنهجة للآثار في غزة خلال سنوات العدوان، حيث تم تهريب آلاف القطع إلى داخل دولة الاحتلال، بما فيها تماثيل وفخاريات وعملات ثمينة، في انتهاك واضح للقانون الدولي.

تحليل: النهب الأثري كأداة لطمس الهوية الفلسطينية
تُظهر الحادثة أن الاحتلال لا يستهدف الحاضر الفلسطيني فقط، بل يسعى كذلك إلى محو الشواهد المادية التي تثبت وجود الحضارات القديمة على هذه الأرض. فالتراث الأثري يمثل:
- وثيقة هوية،
- ودليل رواية حضارية،
- ومعلما يربط الفلسطيني بذاكرته ووجوده.
إن سرقة أعمدة بيزنطية، أو تجريف برج مراقبة صليبي، أو طمس فسيفساء كنيسة تعود للقرن الخامس الميلادي، ليست مجرد أعمال تخريبية، بل هي محاولة لقطع حلقة التواصل بين الشعب الفلسطيني وتاريخه الممتد عبر آلاف السنين.
السياق القانوني للانتهاك
تمثل هذه الحادثة خرقا واضحا لعدد من الاتفاقيات الدولية، منها:
- اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة.
- البروتوكولان الأول والثاني (1956 و1999).
- اتفاقية اليونسكو لعام 1970 لمنع الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية.
- اتفاقية التراث العالمي لعام 1972.
بموجب هذه الاتفاقيات، يُعد الاحتلال مسؤولا مسؤولية مباشرة عن حماية المواقع الأثرية في الأراضي المحتلة، ويُمنع من نقل أو مصادرة أو تدمير أي عنصر من عناصر التراث الثقافي.
كل أثر تاريخي هو مستهدف
إن ما حدث في خربة البرج ليس مجرد واقعة منفصلة، بل يندرج ضمن سياق طويل من استهداف كل أثر فلسطيني، سواء كان مسجدا أو كنيسة أو برجا أو فسيفساء أو كهفا أو مقاما. فكل ما يحفظ الذاكرة الفلسطينية يصبح عرضة للخطر، لأن الاحتلال يعلم أن الشعوب التي تفقد تاريخها يسهل تهميش هويتها وإسكات روايتها.
النداء العاجل
ختاما، نناشد المؤسسات الدولية، وعلى رأسها اليونسكو، التدخل العاجل لحماية التراث الوطني الفلسطيني، ووقف عمليات النهب المنظمة، وفتح تحقيق دولي في الجرائم الثقافية التي يرتكبها الاحتلال بحق المواقع الأثرية في المزرعة الشرقية وسائر أنحاء فلسطين. إن حماية خربة البرج ليست مجرد حماية لحجارة التاريخ، بل حماية لذاكرة شعب وهوية وطن وحق إنساني أصيل.
*باحثة في التراث والاثار



