د. منى أبو حمدية: أطفال غزة… حين يصبح المطر وجهاً آخر للحرب
د. منى أبو حمدية 13-12-2025: أطفال غزة… حين يصبح المطر وجهاً آخر للحرب
في غزة، لا تسقط الأمطار كغيرها… هنا ينهمر الماء ليكمّل ما بدأته النيران. كأن السماء قررت أن تشهد على الجرح ذاته من زاوية أخرى؛ فامتزجت رائحة الطين برائحة الركام، وغرق الشتاء في تفاصيل حربٍ لم تنتهِ.
المطر الذي يهطل على المخيمات يتجلى بمشهد مكمّل للسواد: طرقات تتحول إلى مستنقعات، خيام مهترئة تتصارع مع الريح، ونازحون يواصلون رحلة التيه في أرضٍ لم تعد تملك شيئاً إلا الألم.
نحو مليوني إنسان يعيشون النزوح، ومئات الآلاف مهددون بالسيول، وأحياء بأكملها غمرتها الأمطار كما غمرتها القذائف من قبل.
فالمدينة التي تجرّبت عليها الحرب بشتى أسلحتها، تُجرَّب عليها اليوم قسوة الشتاء كأنها اختبارٌ آخر للصمود.
“الخيام الغارقة: وجوه الأطفال بين البرد والخوف”
بين خيمةٍ ترتعش من المطر، وأخرى تنحني أمام الريح، تتسرب المياه إلى الأجساد الصغيرة قبل أن تتسرب إلى الأرض.
ارتفع منسوب المياه داخل الخيام إلى أكثر من خمسين سنتيمتراً، فاختفت أقدام الأطفال في الطين، وتجمدت أطرافهم في بردٍ لا ترق له السماء.
هنا أمّ تضم طفلها المبلل، لا تعرف كيف تدفئه أو كيف تحمي قلبه من الخوف.
وهناك رجل يرفع أطراف خيمته بيدين ترتعشان، يحاول أن يقي أسرته غرقاً آخر بعد غرق البيوت، بعد غرق الحلم… بعد انهيار مبانٍ قريبة منه لم تحتمل قصفاً ولا مطراً.
وبسبب الغرق؛ توقفت حياة أربعة عشر طفلاً لأن المطر كان أقوى من أغطية الخيام، ولأن العالم كان أضعف من أن ينقذهم.
الموت هنا لا يأتي عبر الطائرات فقط، بل يأتي من ثغرة في خيمة، من موجة صغيرة، من ليلة باردة لم تحمل بصيص دفء.
“سيول فوق جراح لم تندمل”
غمرت الأمطار الشوارع، وابتلعت الخيام، وازداد التدهور الإنساني حتى باتت الأونروا تحذر من كارثة صحية تتجه إلى الانفجار:
مياه راكدة، برد قاسٍ، اكتظاظ خانق، خيام بلا صرف صحي…
أكثر من ربع مليون نازح تضرروا خلال أيام قليلة فقط، وكأن السيول جاءت لتقول للعالم إن غزة لا ينقصها المزيد من الألم.
رجالٌ يحفرون مجارٍ للماء، نساءٌ يحاولن إنقاذ ما تبقى من المؤونة، أطفالٌ يرتجفون، ومخيمات تمتد إلى ما لا نهاية…
ومع ذلك—وبرغم كل هذا—تبقى غزة واقفة.
تغرق، لكنها لا تستسلم.
تبكي، لكن دموعها تصنع معنى جديداً للبقاء.
تنهار الخيام بعد ان تدمرت البيوت، لكن الأرواح تظل أعلى من كل حطام.
إلى العالم:
يا عالماً سمع خبر الغرق ولم يتحرك…
يا عالماً رأى الأطفال يغوصون في الطين كما غاصوا من قبل تحت الركام…
إن أطفال غزة لا يطلبون المعجزات، بل يطلبون الحد الأدنى من حق الحياة:
خيمة لا تغرق، بطانية لا تبتل، دواء يمنع الموت، ويداً تمتد قبل أن يغرق آخر ضوء في عيونهم.
لا تتركوا المطر يحصد ما بقي من الطفولة.
لا تتركوا الخيام تتحول إلى أكفان.
لا تتركوا غزة وحدها في مواجهة حربين: حربٍ من السماء … وحربٍ من الأرض.
كفى صمتاً … فصمتكم هو السيل الذي لا يُرى، لكنه يغرق قلوباً صغيرة لم تتعلم بعد كيف تنطق كلمة: لماذا؟.


