أقلام وأراء

د. مصطفى الفقي يكتب – بريطانيا والعرب

د. مصطفى الفقي *- 12/1/2021

الحديث عن العلاقات العربية – البريطانية من منظور تاريخي؛ هو حديث ذو شجون؛ لأن فيه التواءات وانحناءات وتطورات لا تُرضي كل الأطراف، وقد دخلت بريطانيا العالم العربي، وهي إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فإذا غربت في منطقة تابعة للمملكة المتحدة، فإنها تشرق في منطقة أخرى تابعة لها أيضاً، وظلت بريطانيا هي القوة المسيطرة على البحار وما وراءها، والمتحكمة في المضايق، والقابضة على أعنة السلطة في معظم دول الشرق الأوسط حتى الهند في جنوب آسيا.

ولا بد أن أعترف هنا أن الدبلوماسية الدولية تبدأ بالسياسة البريطانية ولا تنتهي بها، فدهاة الخبراء في الشؤون الدولية خصوصاً ما يتصل بالشرق الأوسط هم من البريطانيين؛ ذلك أن لندن قد أوفدت منذ القرن الثامن عشر شخصيات غامضة تقترب من بعض الحكام العرب المؤثرين، وتكون مصدراً لمعلومات دقيقة، وتحليل عميق للنظم والأوضاع المختلفة، ولعل نموذج (لورانس العرب) يجسّد هذا المفهوم؛ عندما جرى زرعه إلى جانب الشريف حسين وأولاده بعد ذلك في غضون الحرب العالمية الأولى؛ تمهيداً لمعاهدة سايكس- بيكو التي اقتسمت بها بريطانيا وفرنسا النفوذ في المنطقة العربية؛ بحيث تمركزت بريطانيا في مصر والسودان والعراق وإمارات ساحل الخليج العربي مع علاقات طيبة بمملكة الحجاز، وبقي لفرنسا التواجد في سوريا ولبنان، إضافة إلى المغرب العربي باستثناء ليبيا التي استأثرت بها إيطاليا شراكة مع نفوذ إنجليزي متمركز.

وما نظرنا إلى مشكلة عالمية أو إقليمية إلا ووجدنا أنها صناعة بريطانية بدءاً من الحساسيات السودانية التي أوجدتها الدبلوماسية البريطانية؛ تطبيقاً لمبدأ (فرق تسد) مروراً بالمشكلة الفلسطينية وزراعة الدولة العبرية في المنطقة. فبريطانيا هي الدولة صاحبة الانتداب على فلسطين، كما أن وزير خارجيتها هو (بلفور) صاحب الوعد الشهير بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وحتى المشكلة بين الهند وباكستان في كشمير وغيرها من المشاكل المزمنة؛ سوف نكتشف أن المملكة المتحدة كانت طرفاً فيها؛ لذلك ليس غريباً أن نقول إن علاقات بريطانيا بالعرب قد شكلت إلى حد كبير الخريطة السياسية الحالية في المنطقة، ولنا هنا عدة ملاحظات على طبيعة العلاقات البريطانية  العربية تاريخاً وتطوراً وحاضراً:

أولاً: لقد عرف العالم النفوذ الأجنبي والسيطرة الأوروبية في مراحل مختلفة من تاريخه، منذ عصر السلام الروماني الذي هيمن على معظم الدول الأوروبية وحوض المتوسط. وعندما بدأ عصر الكشوف الجغرافية تسيدت إسبانيا والبرتغال، وعندما بدأ العصر الاستعماري الحديث؛ تقدمت بريطانيا وفرنسا، لقيادة التوجه نحو المستعمرات في تنافس محموم بين لندن وباريس، وانتهى الصراع بينهما كما أسلفنا إلى تقسيم المنطقة مع بدايات القرن العشرين.

ولابد أن نعترف أن الاحتلال البريطاني هامشي بطبعه، فهو يركز على بؤر للسيطرة ومواقع للتحكم يتمركز فيها ويكتفي من خلالها بالسيطرة على باقي أجزاء المناطق التي يحتلها، وهو ليس معنياً بالجانب الثقافي مثلما هو الأمر بالنسبة للاستعمار الفرنسي، فالوجود البريطاني مشغول بإدارة مناطق الاحتلال وإخضاعها بأقل قوة ممكنة، هكذا فعل في الهند وفي مصر وفي الأجزاء المحتلة منه على خريطة العالم.

ثانياً: لقد كان اكتشاف البترول العربي نقلة نوعية للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط، وفتح شهيتها لدخول الجزيرة العربية والإمارات المتصالحة على شاطئ الخليج والسيطرة الإدارية والفنية حتى من دون الوجود العسكري.

ثالثاً: إن النموذج البريطاني في التعليم والعلاج الطبي والتسوق والسياحة يبدو في مجمله مبهراً للمجتمعات العربية، وجاذباً للقوة الشرائية في الأسواق الشرق أوسطية، خصوصاً قبل أن يسيطر الاقتصاد الأمريكي ثم الصيني على جزء كبير من واردات دول الوطن العربي.

رابعاً: إن فهم الدبلوماسية البريطانية للعقلية العربية أمر ملحوظ؛ إذ إن البريطانيين هم أساتذة إدراك التوجهات العربية وسياسات حكامها التقليديين، ولنتذكر أن هنري كسينجر داهية الدبلوماسية الأمريكية في أثناء زياراته المتعددة للشرق الأوسط بعد حرب عام 1973 كان يمر بالعاصمة البريطانية في طريقه إلى الشرق الأوسط؛ ليتبادل الرأي مع الخبرات البريطانية في وزارة الخارجية بلندن ثم يلتقي بالسادات وببعض حكام المنطقة المعنيين بحرب عام 1973 ثم يعود إلى بلاده عن طريق العاصمة البريطانية مرة أخرى؛ لكي يحلل مع خبرائها نتائج مباحثاته في فترة ساخنة من الصراع في الشرق الأوسط.

خامساً: إن الذين درسوا في المملكة المتحدة – وأنا أحدهم – يدركون الفهم الواضح لدى الإنجليز لتفاصيل العقلية العربية وعاداتها.

إن العلاقات العربية  البريطانية هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الشرق الأوسط وفصل بارز من أحواله السياسية والاقتصادية؛ بل والثقافية أيضاً.

*دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى