أقلام وأراء

د. مصطفى الفقي يكتب – أردوغان وإسرائيل .. لغز معقد

د. مصطفى الفقي – 25/8/2020

سوف يظل رجب طيب أردوغان شخصية مثيرة للجدل تحيط بها أوهام عبثية وأفكار عفا عليها الزمان مع حالة من حالات ازدواج الشخصية التي لا نكاد نعرف لها مثيلاً. لقد رأيت له ثلاث لقطات تلفزيونية تدعو إلى الدهشة؛ أولاها في زيارة لإسرائيل منذ عدة سنوات، محاطاً بالقيادات الصهيونية داخل الدولة العبرية، ورأيت له لقطة أخرى في حوار مع شمعون بيريز حضره عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية وقتها، ومعهم أمين عام الأمم المتحدة حينذاك، وفوجئنا برجب طيب أردوغان يترك اللقاء منفعلاً، ويوجه حديثاً عنيفاً بصوت مرتفع لبيريز بصورة توحي بأن أردوغان هو حامي حمى الحرمين، والحافظ الأول للقضية الفلسطينية والحريص الأشد على حقوق الشعب الفلسطيني.

ثم رأيناه في مشهد ثالث يوفد مركباً تركياً، في محاولة للوصول إلى أبناء غزة المحاصرين، فتضرب إسرائيل المركب، وتقتل عدداً من أفراده في جريمة مروعة شهدها العالم كله، ويمتطي رجب طيب أردوغان صهوة جواد عثماني، ويهدد إسرائيل بتجميد العلاقات وبعقوبات ما لم تحقق له شروطاً ثلاثة كان من بينها دفع تعويضات لأسر الضحايا، والثاني تقديم اعتذار رسمي للدولة التركية، والثالث تحسين أوضاع الفلسطينيين في غزة.

والطريف أن الأمور عادت إلى مجاريها بين إسرائيل وتركيا بزعامة أردوغان من دون أن تحقق له إسرائيل أياً من الشروط الثلاثة التي ذكرها باستثناء اعتذار هزيل، وهكذا وجدنا الرجل يلعب بصورة بهلوانية على حبل رفيع حتى رأينا مشهده الأخير ينتقد بشدة دولة الإمارات، لأنها اتفقت مع إسرائيل برعاية أمريكية على إقامة علاقات بين البلدين، ونسي هو تاريخه الشخصي وتاريخ بلاده في العلاقات القوية مع إسرائيل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبدأ يسكب الدموع حزناً على الشعب الفلسطيني، ولكنها دموع التماسيح عندما تنحسر عنها المياه.

كل ذلك لا يمنع أردوغان من ارتداء عباءة السلطان العثماني عند اللزوم ووضع عمامة الخلافة على رأسه، ضارباً بأفكار أتاتورك عرض الحائط، ومحاولاً التدخل في كل الدول التي خضعت للسلطنة العثمانية في قرون الظلم والظلام بدءاً من البلقان مروراً بالصومال، ثم العودة إلى لبنان الجريح، لكي يقدم عروضه المشبوهة كما أنه يريد أن يجعل من الدولة الليبية مسرحاً للإرهاب ومأوى للمتطرفين، فيضرب عدة عصافير بحجر واحد، أولها اغتصاب الثروة الليبية، واستخدام ساحلها الطويل على البحر الأبيض في مغامراته المتتالية، إلى جانب وضع برميل بارود ضخم على حدود مصر التي قصمت ظهره، وتحرك شعبها في تلقائية يوم 30 يونيو 2013 ليغير الخريطة ويبدل الأوضاع، فضرب المصريون مخططاً ضخماً كان يتوهم به أردوغان أنه يستعيد الخلافة ويجلس على كرسي السلطان مرة أخرى، مستمداً الشرعية من جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت بعد سقوط الخلافة العثمانية بأربع سنوات فقط، وتوهم أنه سوف يحكم الأقطار والأمصار ويعيد سياسة القهر التركي إلى المنطقة، ولقد ناصب مصر العداء واعتبرها هي الجائزة الكبرى لأطماعه هو ومن يقفون وراءه، والغريب أنه تمتع بشيء من التدليل من جانب الولايات المتحدة، بل وبعض دول الاتحاد الأوروبي باعتبار بلاده عضواً في حلف الأطلسي، فضلاً عما أوهم به أردوغان تلك الدول من أنه حائط الصد والحماية لهم من الإرهاب، وأنه أيضاً القادر على حل مشكلة الهجرة من جنوب المتوسط إلى شماله.

ولنا هنا بعض الملاحظات:

* أولاً: إن أردوغان يملك سجلاً من الأطماع في الأراضي العربية، سواءً السورية أو العراقية، فضلاً عن التحرك الجديد في جنوب المتوسط وفي غرب ليبيا تحديداً، إلى جانب أطماعه في إفريقيا العربية بدءاً من سواكن والصومال، بل والسودان أيضاً، وهو يريد أن يوزع القواعد العسكرية لكي تحيط بمصر وتطوقها بحيث تكون محصورة بين قوى «داعش» والإرهاب التركي في الغرب والجماعات التكفيرية في سيناء التي تحاول استنزاف طاقات الجيش المصري، والدولة المصرية قيادة وشعباً صامدة لا تلين، واقفة لا تركع.

* ثانياً: إن صورة تركيا في شرق أوروبا والبلقان صورة تعيسة للغاية مثلما هو الأمر في معظم المناطق الإسلامية والعربية، فمذابح الأرمن لا تزال شاخصة في ذاكرة العالم المعاصر، كما أن العبث التركي في عدد من الأقطار الإسلامية والعربية لا يزال تاركاً بصماته على الحدود بينها، فما أكثر ما تنازلت تركيا عما لا تملك، وفرطت في ما لا تستحق فضلاً عن العنف المفرط، وهل ينسى السوريون مشانق جمال باشا في ميادين دمشق وبيروت؟!

* ثالثاً: تسعى تركيا إلى إيواء العناصر الخارجة عن الشرعية والقانون في بلادها، وتفتح أبواق الدعاية من أرضها ضد السياسات العربية الحرة والمواقف الإقليمية الثابتة، ولا تألو جهداً في تسميم العلاقات بين الأشقاء في العالمين العربي والإسلامي.

هذه لمحات من الشيزوفرينيا المركبة لسلطان أنقرة الجديد الذي كنا نتوقع منه أن يكون إضافة للعالم الإسلامي، فإذا هو عبء عليه، كل ذلك والشعب التركي يعاني جراء تصرفات حاكمه المستبد الذي قضى على كثير من مظاهر التحضر الفكري والرقي السياسي الذي كنا ننتظر أن تلعبه الجمهورية التركية المستقلة، والتي خرجت من عباءة السلطنة منذ قرابة مئة عام، ولكننا كمن يؤذن في مالطا التي سعى إليها أردوغان أيضاً ليقيم فيها قاعدة عسكرية لتمويل سفنه، وتجهيز عتاده للعدوان على غيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى