أقلام وأراء

د. مصطفى البرغوثي يكتب – الإدارة المنحازة ليست وسيطاً عادلاً

د. مصطفى البرغوثي *- 22/3/2021

تناقلت وسائل الإعلام أنباء عن مراجعات تجريها إدارة الرئيس بايدن لإعادة العلاقات الأميركية مع السلطة الفلسطينية. وقد استطاعت هذه الإدارة، منذ بدء ولايتها في يناير/ كانون الثاني الماضي، الانفكاك بحزم وسرعة عن سياسات إدارة ترامب في قضايا كثيرة على الصعيدين، المحلي والدولي، إذ غيرت كليا نمط معالجة وباء كورونا، وأعادت الولايات المتحدة إلى اتفاقية المناخ العالمي ومنظمة الصحة العالمية. وعملت على إعادة علاقة الولايات المتحدة مع أوروبا وكندا والمكسيك إلى طبيعتها. وأجرت تعديلا على مسار علاقاتها مع دول كبرى، كالصين وروسيا، وبدأت نهجا مختلفا إزاء إيران.

الاستثناء الوحيد في هذه المراجعات هو العلاقة مع إسرائيل، والموقف من حقوق الشعب الفلسطيني. إذ لم تخرج إدارة بايدن من سلسلة الأقفاص التي حشرها فيها ترامب قبل مغادرته البيت الأبيض، بدءا من نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل، ومرورا بالاعتراف بضم هضبة الجولان السورية المحتلة، وانتهاء بنشاطات التطبيع مع دول عربية بغرض عزل القضية الفلسطينية وتصفية عناصرها في إطار ما عرف بصفقة القرن، وهي نشاطاتٌ أطنبت إدارة بايدن، على لسان وزير خارجيتها، أنطوني بلينكن، في مديحها. والأمر الأبرز استمرار الإدارة في الصمت على النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية الرامية إلى تطويق إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة وإبطالها. كما بقي مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن مغلقا، ولم تقم الإدارة الأميركية بأي مبادرة للحد من تأثير قانون تايلور فورس على العلاقات الأميركية الفلسطينية. واستمرت الضغوط لحرمان الأسرى الفلسطينيين وعائلات الشهداء من مخصصاتهم التي تسند معيشتهم، مع تبنٍّ كامل لمحاولات الحكومة الإسرائيلية إلصاق صفة الإرهاب بهم.

النتيجة الوحيدة لن تكون سوى ما ورد في صفقة القرن، تحويل فكرة الدولة الفلسطينية إلى مجرّد كانتونات ومعازل “.

من السذاجة أن يعتقد بعض المخطّطين أن تخصيص مبلغ 15 مليون دولار لمساعدة السلطة الوطنية على مواجهة وباء كورونا سيمثل نقطة انعطاف ذات أهمية بالنسبة للفلسطينيين، إذ ما الذي يمثّله هذا المبلغ الهزيل بالمقارنة مع ثلاثة مليارات وستمائة مليون دولا تمنح سنويا لإسرائيل، المتلقي الأكبر في العالم للمساعدات الأميركية، عدا عن مليارات الدولارات التي تصل من الولايات المتحدة عبر جمعيات وصناديق أميركية مختلفة إلى إسرائيل، بما في ذلك مئات الملايين المخصصة للتوسّع الاستيطاني غير الشرعي.

يبدو أن جوهر ما تطرحه مراجعات إدارة بايدن هو العودة إلى التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي على هدف ما يسمى “حل الدولتين”، وذلك يثير أسئلة مهمة: ما هو المقصود بحل الدولتين في ظل استمرار النشاط الاستيطاني، ومن دون أن تجرؤ الإدارة الأميركية على إجبار إسرائيل على التوقف عنه؟ ما الذي يعنيه حل الدولتين إن بقيت إجراءات فرض الأمر الواقع الإسرائيلية على الأرض، بما في ذلك ما يزيد عن مائتي مستعمرة استيطانية، وجدار الفصل العنصري، وطرق الأبرتهايد والفصل العنصري التي تقطع الضفة الغربية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب؟ وما الذي يمكن أن ينتج من مفاوضات جديدة تتحكّم الإدارة الأميركية في مسارها، في وقتٍ تواصل فيه الانحياز لإسرائيل، ولرؤيتها، وروايتها، وخصوصا مقولاتها الأمنية؟ النتيجة الوحيدة لهذا المسار لن تكون سوى ما ورد في صفقة القرن، بتحويل فكرة الدولة الفلسطينية إلى مجرّد كانتونات ومعازل تعيش في بحر من الهيمنة والسيطرة الإسرائيلية، وعلى مساحةٍ لن تتجاوز 50% من الضفة الغربية في 224 جزيرة مقطّعة الأوصال، ويسودها نظام أبرتهايد عنصري، رأينا أسوأ تجلياته في التمييز الذي مارسته حكومة إسرائيل في ما يتعلق بتوزيع اللقاحات الخاصة بوباء كورونا.

مما يمكن للفلسطينيين عمله لتغيير ميزان القوى، بدل المراهنة العقيمة على المفاوضات، توحيد صفوفهم” .

وعلى الرغم من محاولات السلطة الفلسطينية إحداث نوع من التوازن عبر مؤتمر دولي، أو من خلال “الرباعية” أو المبادرة الألمانية الفرنسية المشتركة مع مصر والأردن، فإن ذلك كله يبقى مقيّدا بإصرار جميع الأطراف الدولية على أن الأداة الحاسمة في ملف المفاوضات ستبقى بيد الولايات المتحدة، لأن إسرائيل لن تقبل بغير ذلك. وذلك سيعيدنا إلى المربع الأول الذي ساد منذ وقع اتفاق أوسلو، ومضمونه أن “عملية السلام التي لا تنتهي” تصبح بديلا للسلام، و”المفاوضات” بديلا للحل، في حين تستكمل إسرائيل، عبر الاستيطان، التهام ما تبقى من الأراضي المحتلة، جاعلة من المفاوضات غطاءً لهذه العملية.

لا يمكن لإدارة منحازة أن تكون وسيطا عادلا. والاختبار الذي فشلت فيه إدارة أوباما سابقا كان تنفيذ ما وعدت به بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، حيث صار البون شاسعا بين ما وعد به أوباما، في خطابه الشهير في القاهرة في أول عام لرئاسته، وما استقرّت عليه الأمور عندما تجاوز نتنياهو أوباما وإدارته، وخاطب مجلسي النواب والشيوخ، وحاز فيهما على تصفيقٍ لم يحظ به أوباما نفسه طوال ولايتي رئاسته.

العبرة من كل ما جرى في الحقيقة البسيطة، أن ميزان القوى على الأرض هو المقرّر لأي مفاوضات قبل أن تبدأ وبعد أن تنتهي. ومن كثير مما يمكن للفلسطينيين عمله لتغيير ميزان القوى، بدل المراهنة العقيمة على المفاوضات، توحيد صفوفهم، وتصعيد مقاومتهم الشعبية وتعرية نظام الأبرتهايد العنصري في العالم.

*د. مصطفى البرغوثيالامين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى