أقلام وأراء

د. محمد السعيد إدريس يكتب – خطر استقطاب وتقسيم العراق

د. محمد السعيد إدريس – 17/1/2020

الدعوة التي وجهها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر للعراقيين الثلاثاء الفائت للخروج في «تظاهرة مليونية» ضد الوجود الأمريكي في بلاده؛ تكشف مدى صعوبة، أو بالأحرى استحالة إعفاء العراق من «دفع أثمان تناحرات خارجية»على النحو الذي طالبت به بعثة الأمم المتحدة في العراق، عقب الضربات الصاروخية الإيرانية على قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في العراق، رداً على اغتيال قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني ؛ بل ومدى استحالة تحقيق طموحات سبق أن عبّر عنها مقتدى الصدر نفسه منذ فترة سبقت مسلسل الضربات المتبادلة بين واشنطن وطهران، طالب فيها بأن «ينأى العراق بنفسه عن الصراعات الإقليمية». وقتها كان مفهوماً أن الصدر يستهدف بالأساس الوجود والنفوذ الإيراني في العراق، وأنه كان يدفع بتحفيز العراق لاستعادة زخم علاقاته العربية؛ لموازنة النفوذ الإيراني.

وإذا كانت دعوة بعثة الأمم المتحدة إلى تجنيب العراق أثمان صراعات النفوذ على أراضيه تبدو مستحيلة، فإنه لا توجد أسباب منطقية تنفي أيضاً استحالة تلبية العراقيين لدعوة الصدر بتلك التظاهرة المليونية، فالعراق باتمفعماً بالاستحالات الداخلية، كما هو مفعم أيضاً بالاستحالات الخارجية. فكما أن التوفيق بين النفوذين (الأمريكي والإيراني) أضحى مستحيلاً على أرض العراق، فإن التوافق الداخلي على قرارات استراتيجية صدرت في لحظة غير اعتيادية عقب اغتيال سليماني على أرض العراق، ومعه القائد الأبرز ل«الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس، أصبح مستحيلاً هو الآخر بين من يطالبون بإنهاء الوجود الأجنبي كله على أرض العراق، حسب القرار الصادر عن البرلمان العراقي، ومن يرفضون هذا القرار.

الأخطر من ذلك أنه إذا كان النواب السنة والأكراد قد تعمدوا إظهار رفضهم لقرار يصدر عن البرلمان بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في العراق سواء بتعمد تغيبهم عن الجلسة أو الحضور ورفض التصويت لمصلحة القرار الذي صدر بأغلبية 170 نائباً، فإن النواب الشيعة هم من تبنى القرار، ما يعني أن العراق مرشح لمزيد من حدة الاستقطاب الداخلي حول الموقف من وجود أو عدم وجود القوات الأجنبية، خصوصاً أن هذا الاستقطاب على أرضية انقسام المواقف حول هذا الموضوع يتزامن مع انقسام آخر حول اختيار الشخص المرشح لرئاسة الحكومة الجديدة التي ستخلف حكومة عادل عبد المهدي

هذا الانقسام الداخلي حول قضية تشكيل الحكومة الجديدة ورئيسها، وتزامنه مع الانقسام على قرار البرلمان بإخراج القوات الأجنبية من العراق، مرشح لأن يفاقم من خطر الاستقطاب الداخلي في العراق، الذي يمكن أن يعيد طرح خيار «إعادة تقسيم العراق» إلى حالة «الفوضى المدمرة». هذا الخطر يتفاقم في ظل ثلاثة تطورات مهمة تحدث متزامنة مع بعضها:

* الأول: الرفض الأمريكي للانسحاب العسكري، وتهديد واشنطن بتدفيع العراق الأثمان الفادحة ثمناً لهذا الطلب إذا تمسكت به الحكومة العراقية. أول من تحدث عن هذا الرفض كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي هدد في تصريح لمحطة «فوكس نيوز» بأنه «إذا أراد العراق منا المغادرة فعليه أن يدفع لنا الأموال التي خسرناها في البلد (العراق) وألا سنبقى هناك»، وبعدها نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، أن الولايات المتحدة هددت العراق بحرمانه من مليارات الدولارات، وأوضحت: إن وزارة الخارجية الأمريكية هددت بغداد بتجميد حساب مصرفي تابع للعراق في بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي)، وهو الحساب الذي يودع فيه العراق مليارات الدولارات من عائداته النفطية، ما يعني أن العراق لن يكون في مقدوره سحب أي رصيد من أرصدته.

وبعد التهديد جاء حديث «المراوغة» وتم عبر طرح صيغة «الانسحاب المشروط» وفق ما جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت أوبراين بقوله إن «ما يتعين علينا فعله هو المغادرة وفقاً لاتفاقنا وبطريقة يتم فيها القضاء على «داعش» تماماً». ربط الخروج من العراق بالقضاء التام على «داعش»، وهذا يحمل معه مخاطر تجديد وجود «داعش» في العراق.

* الثاني: الإصرار الإيراني على إخراج القوات الأمريكية من العراق، وهو الإصرار الذي يدخل ضمن قرارات «القصاص العادل» لاغتيال سليماني، خصوصاً وأن القادة العسكريين الإيرانيين كانوا حريصين على تأكيد أن القصف الصاروخي الإيراني للقاعدتين العسكريتين الأمريكيتين في العراق «كان بداية وليس نهاية لمسلسل الانتقام لاغتيال سليماني». وإذا كانت حادثة سقوط الطائرة الأوكرانية بصاروخ إيراني «أطلق بطريق الخطأ» حسب التوضيحات الإيرانية فرض سياسة «التهدئة المؤقتة» على طهران، فإنه بعد احتواء الأزمة الطارئة حول هذه القضية من المرجح أن تستعيد إيران تفعيل سياسة الانتقام من الأمريكيين داخل الأراضي العراقية.

* الثالث: هو وجود أطراف داخلية لديها الاستعداد الكامل للتأسيس ل «خيار مقاومة» ضد الوجود العسكري الأمريكي، ويأتي على رأس هؤلاء مقتدى الصدر الذي كان قد أكد أن قرار البرلمان العراقي بإخراج القوات الأمريكية من العراق «كان رداً هزيلاً لا يرتقي لمستوى الانتهاك الأمريكي للسيادة العراقية، ولا بد أن يتم هذا الطرد بطريقة مذلة»، كما دعا إلى إغلاق السفارة الأمريكية، و«تجريم أي اتصال بواشنطن».

تطورات تؤكد أن العراق مقبل على مزيد من الاضطراب والاستقطاب الذي يهدد وحدته ويجعل الرغبة في النأي به عن الصراعات المتفجرة على أراضيه من أطراف إقليمية ودولية أقرب إلى المستحيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى