أقلام وأراء

د. مجدي شقورة يكتب – منظومتنا القيمية في ظل الانقسام… إلى أين ؟؟

د. مجدي شقورة ٢٦-١٠-٢٠١٩

تعد القيم المجتمعية من الموضوعات الجوهرية التي تمس جميع جوانب الحياة، الأمر الذي جعلها من أهم الوسائل التي من خلالها يتم التمييز بين أنماط حياة الأفراد والجماعات، وتقف القيم وراء كل عملٍ وسلوكٍ إنساني، ووراء كل تنظيم اجتماعي، وتُختصر القيم بالأساس في علاقة الإنسان بالمجتمع، ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، وضبط سلوكه، وتحديد مكانته في المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا ما يفسر اهتمام العلماء والفلاسفة بها على مر العصور.

سادت قيم التسامح في المجتمع الفلسطيني خلال الحقبة التي سبقت الانقسام السياسي، وعاش الفلسطينيون على مدى قرونٍ طويلةٍ دون أن يعرفوا معنى لمصطلح “التعصب” الذي يعبّر عن الممارسات والأفعال القائمة على التمييز العرقي والديني، وعلى الرغم من ارتباط مصطلح “التسامح” للتعبير عن التسامح الديني مع طوائف الأقليات الدينية عقب الإصلاح البروتستانتي، فقد شاع استخدامه للإشارة إلى قطاع أكبر من الممارسات والجماعات التي تم التسامح معها أو الأحزاب السياسية أو الأفكار التي تم اعتناقها على نطاقٍ واسع.

تواجه المنظومة القيمية في المجتمع الفلسطيني، في ظل الانقسام، مخاطر جمّة، فعلى الصعيد الفكري بدا واضحاً أن هناك محاولات داخل المجتمع لحجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، من خلال فرض قيودٍ وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف، سواءً عبر قوانين مقيّدة (قانون الجرائم الإلكترونية نموذجاً) أو من خلال ممارساتٍ قمعيةٍ تحت مبرراتٍ شتى (قرار حجب المواقع الإلكترونية مؤخراً بحجة حماية الأمن القومي والسلم الأهلي!!).

بررت الجهات الحاكمة في فلسطين احتكارها للسلطة والسعي للحفاظ عليها ومصادرة الرأي الآخر، بحججٍ تتعلق تارةً بالصراع مع الاحتلال، وتارةً أخرى بحجة الدفاع عن مصالح المواطنين، وثالثةً بحجة الحفاظ على الدين، وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يعني سوى محاولاتٍ لإسكات الصوت الآخر وتسويغ فكرة الاستئثار بالسلطة وادعاء الحقيقة، ومع هذه التبريرات فقد الشباب الفلسطيني حقه في المشاركة السياسية، وتم سلب الجماهير الفلسطينية حقها في اختيار ممثليها عبر صناديق الاقتراع، وتم إغلاق الأمل في وجه جيلٍ حرمه الانقسام من كل أسباب الحياة.

تُعدّ القيم الاجتماعية أبرز ضحايا الانقسام السياسي في فلسطين، فالشعور بالمواطنة بات معدوماً، والنداء الذي يكرره الشباب هذه الأيام “لبيك اللهم هجرة” يُعطي دلالة على فقدان الإحساس بقيمة الوطن في صدور الشباب، الذين أصبحوا على أتم الجاهزية لأن يموتوا تحت نفقٍ أو في عرض البحر أو مطاردة من الشرطة الدولية على أن يبقوا يوماً واحداً في وطنٍ لا ينعمون فيه بالحد الأدنى من شروط المواطنة، بينما لجأ البعض الآخر ممن لا حيلة لهم في مجابهة التحديات والمخاطر إلى المخدرات، في محاولةٍ للتغيب عن الواقع المعيشي، الذي ترك آثاره لاحقاً على سلوكياتهم وحتى على أخلاقهم ونمط تفاعلهم اجتماعياً.

يمكن اعتبار أن الثقافة المجتمعية هي آخر ضحايا هذا الانقسام الذي عطّل تقريباً الفضاء الثقافي في فلسطين، بعد أن كنّا ذات يومٍ نتغنى بأن لدينا أفضل شاعر عربي (محمود درويش) وأفضل أديبٍ عربي (غسان كنفاني) وأفضل كاتبٍ عربي (ادوارد سعيد)، فقد بتنا نشاهد وعلى مدار الساعة من يميلون إلى التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكلٍ أو نمطٍ للتغيير، حتى بات البعض يًعرّف الشعر على أنه “بدعة وضلال”، وتنسحب مثل هذه النظرة على الكثير من الآداب والفنون الإنسانية المختلفة، وبخاصة مجالات الموسيقى والغناء والتمثيل وسواها من الفنون، بشكلٍ بدأت تختفي معه هذه القيم الجمالية لصالح نمطية أفضت إلى عزلة المثقفين واعتزالهم مهنة الثقافة لمصلحة التكيف مع واقعٍ لا يُقنعهم في شيء.

تتجاوز مسألة المنظومة القيمية في المجتمع الفلسطيني حدود ما ينبغي على الفرقاء السياسيين التوقف عنده، فالقضية تتعدى نطاق توحيد النظام السياسي أو إعادة الوحدة الترابية للجغرافيا الفلسطينية، لتصل إلى جوهر ما بُني المجتمع على أساسه، بمعنى أن الانقسام السياسي ضرب الشريان المغذي للحياة الفلسطينية في مقتل، وبات من الواجب على الجميع الوقوف عند مسؤولياته لجهة ترميم ما تبقى من قيمٍ مجتمعية تضمن تصالحاً مع الذات أولاً، ثم الانطلاق إلى مصالحةٍ على المستوى الاجتماعي في محاولةٍ أخيرةٍ لرأب الصدع الذي أحدثه الانقسام في بنية المجتمع وقيمه المتوارثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى